دور الوزير في الإصلاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

للأستاذ فتحي رضوان، ذلك الكاتب والمفكر والمناضل السياسي العظيم، كتاب جميل اسمه (72 شهراً مع عبد الناصر)، يحكى فيه قصصاً وذكريات شيقة للغاية عن السنوات التي قضاها وزيراً في عهد عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي. من بين هذه القصص، أن عبد الناصر سأله مرة عن رأيه في شخص معين، كان أستاذاً في كلية الهندسة (الدكتور مصطفى خليل)، وكان عبد الناصر يفكر في تعيينه وزيراً.

قال فتحي رضوان رأيه، ثم أضاف أن من المستحسن أن يسأل عبد الناصر أيضاً غيره من الوزراء، لكي يعرف إذا كانوا على استعداد للتعاون مع هذا الشخص إذا تم ضمه لمجلس الوزراء. أجاب عبد الناصر على ملاحظة فتحي رضوان، إجابة غريبة، هي: وهل تظن أن بقية الوزراء مثلك؟. وأنا أفسر هذه العبارة بأن عبد الناصر كان يتوقع من الوزراء الآخرين، إذا سألهم عن رأيهم في شخص ما، أنهم لن يقولوا إلا ما يتوقعون أن الرئيس يريد سماعه، أو أن عبد الناصر كان يتوقع منهم أن يتعاونوا مع الوزير الجديد، بصرف النظر عن صفاته، طالما أن الرئيس كان راضياً عنه.

من الرجال العظام أيضاً، الذين تولوا منصب الوزير في عهد عبد الناصر، الدكتور حلمي مراد، الذي تولى وزارة التربية والتعليم لفترة قصيرة في أعقاب حرب 1967، واعترض مرة في اجتماع لمجلس الوزراء على قرار بعزل بعض القضاة لأسباب سياسية (مما عرف وقتها بمذبحة القضاء)، ما أغضب عبد الناصر، الذي كان يرأس الاجتماع، وقال له بحدة، إنه وزير للتعليم وليس وزيراً للعدل، فأجابه حلمي مراد بأن «مسؤولية الوزراء تضامنية»، وهى إجابة أدت إلى خروج حلمي مراد من الوزارة بعد قليل.

لمثل هذه الاعتبارات، أعتقد أن من أهم الأسئلة التي أتصور أن يسألها الشخص الذي يطلب منه اعتلاء منصب الوزير، الاستفسار عن الأشخاص الذين يجري التفكير في ضمهم معه إلى مجلس الوزراء (ناهيك عن شخصية رئيس الوزراء نفسه)، من أجل التحقق من مدى توفر «الانسجام» المطلوب لضمان حسن سير العمل، وتحقيق الإصلاح المطلوب.

أتصور أيضاً، أن التحقق من هذا الانسجام بين الوزراء، أكثر ضرورة في ظروف معينة، منه في غيرها، وأنه بصفة عامة، أكثر ضرورة في بلاد كبلادنا، وفي ظروف مثل الظروف التي نمر بها الآن، ومنذ فترة طويلة، منه في بلاد أكثر استقراراً وأقل مشاكل، أو على الأقل، نجحت في حل المشكلات الكبرى، ولا تواجه مشكلات لها نفس الحدة والعمق التي نواجهها في مصر منذ سنوات كثيرة.

أظن أن من الممكن أن نلاحظ فارقاً مهماً في هذا الصدد، بين حكومات ما قبل ثورة 1952، والحكومات التي جاءت بعدها. وهو أمر يدعو إلى الدهشة، من حيث إن من المفترض أن تأتي الثورات بأصحاب برؤية جديدة، يريدون بها تحقيق إصلاح شامل، وليس مجرد إدخال تغييرات صغيرة هنا وهناك، مما لا يكوّن مجموعها «ثورة».

لم تكن الظاهرة قاصرة على وزراء حزب الوفد، الذي كان له تصور أكثر ثورية من غيره من أحزاب ما قبل 1952، بل كانت الأحزاب المنافسة له (كالسعديين والأحرار الدستوريين)، كثيراً ما تأتى بوزراء (ورؤساء وزارات) من أصحاب الرؤية الشاملة المخالفة لرؤية حزب الوفد. كان طه حسين مثلاً (وزير المعارف في حكومة الوفد في 1950)، صاحب رؤية شاملة للإصلاح في مصر، وكان كذلك عبد الرازق السنهوري وزير المعارف في حكومة السعديين.

قد يبدو مدهشاً، أن يكثر الوزراء أصحاب الرؤية، في ظل الاحتلال، ويقل عددهم بعد الجلاء، بل وبعد الثورات، وقد يكون الأكثر مدعاة للحزن، أن يكون هذا حال الأحزاب نفسها، إذ كانت الأحزاب قبل 1952 أكثر استحقاقاً لوصف (السياسة) منها بعدها، بل أصبح معظمها بعد ذلك، إما أحزاب تابعة للسلطة تبعية كاملة، أو أحزاب تعمل لخدمة رؤسائها، أو أحزاب تصدر بعض الصحف، ولكنها يائسة يأساً تاماً من أن يختار منها وزراء في أي حكومة من الحكومات.

من المحزن أيضاً، أن نرى أن هذه الظاهرة قد استمرت حتى بعد ثورتي 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وهما ثورتان كان من الممكن جداً أن يأمل المرء أن يأتيا بوزراء أقرب إلى السياسيين منهم إلى التكنوقراط. ولكن حدث العكس، ليس فقط في ما يتعلق بالوزراء، بل وأيضاً برؤساء الوزارات. بل وأضيف إلى ذلك، قصر عمر الحكومات والوزارات، ما يجعل من الصعب على الوزير صاحب الرؤية (أو الوزير السياسي) أن يظل كذلك، إذ يرى الفترة المتاحة له في منصبه، لا تكفي حتى لتحقيق أبسط الإصلاحات، ناهيك عن الإصلاح الشامل، بالتعاون مع غيره من الوزراء.

ما تفسير هذه الظاهرة العجيبة؟ أرجو أن أتناول هذا السؤال في مقال آخر.

Email