خيبة أمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سنة 1938، أي منذ حوالى ثلاثة أرباع القرن، نشر الدكتور طه حسين، كتاباً مهماً تحت عنوان «مستقبل الثقافة في مصر»، أحدث دوياً واسعاً، وظل فترة طويلة يشغل الناس، واعتبره مؤرخو الثقافة المصرية والعربية علامة مهمة في تاريخنا الثقافي، يتكرر ذكره واقتطافه المرة بعد المرة، وخاصة دعوته إلى الأخذ من الحضارة الغربية بعبارات مدهشة في حسمها، إذ دعا إلى أن «نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم»، وإلى أن نقبل من هذه الحضارة «خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب».

وفى سنة 1955، أي بعد كتاب طه حسين بسبعة عشر عاماً، نشر الدكتور عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، كتاباً أحدث دوياً مماثلاً، بعنوان «في الثقافة المصرية»، ظل هو أيضاً (وربما لا يزال)، يعتبر علامة مهمة في تاريخنا الثقافي، إذ هاجم الكتاب بقوة وفصاحة، الانحياز الطبقي في أعمال كبار أدبائنا، وإهمالهم للقضية الاجتماعية، وتجاهلهم لقضايا الفقر وسوء توزيع الدخل.

خطر لي الآن، وقد مر هذا الزمن الطويل على كل من كتاب طه حسين وكتاب أنيس والعالم، أن أتساءل عما يمكن أن يكون تقييم كل من هؤلاء المفكرين الثلاثة، لما للثقافة المصرية في هذه الفترة، وعما إذا كانوا سيرضون عما حدث، وإلى أي مدى كان هذا الذي للثقافة المصرية خلال ثلاثة أرباع القرن (في حالة طه حسين)، أو خلال ستين عاماً عاماً (في حالة أنيس والعالم)، قد تأثر بما دعا إليه هؤلاء المفكرون الكبار؟.

إني لا أتردد في القول بأن إجابتي عن هذه الأسئلة، تنطوي على درجة عالية من خيبة الأمل، إذ لا أتصور أن يكون أي منهم راضياً بأي حال عما حدث للثقافة المصرية، كما أني لا أظن أن أياً منهم كان له دور مهم في ما حدث بالفعل.

ففي ما يتعلق بموقفنا من الحضارة الغربية، نحن الآن في حالة تسمح لنا بتقييم ما أحدثته سياسة الانفتاح التي دشنها السادات في منتصف السبعينيات (تقريباً في الوقت نفسه الذي رحل فيه طه حسين عن العالم)، واستمرت، بدرجة أو بأخرى، حتى الآن. إن من الممكن أن نقول إن هذا الانفتاح كان تطبيقاً، ولو بطريقة فجة، عما كان يصفه طه حسين بالأخذ من الحضارة الغربية خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد وما يعاب، ومع هذا، فلدي أسباب قوية للاعتقاد بأن هذا الذي حدث بالفعل، كان أبعد ما يتصور عما يمكن أن يكون قد طاف بذهن طه حسين، عما يجب أخذه من الغرب.

هل كان طه حسين يتصور مثلاً، أن يتضمن الأخذ من حضارة الغرب، انفتاحاً استهلاكياً إلى هذا الحد؟، مع إهمال التصنيع وتطوير القدرة الإنتاجية والتكنولوجية إلى هذا الحد؟، قد يقال إن طه حسين لم يكن يقصد الاقتصاد، بل الثقافة.

فهل ترك الانفتاح الاقتصادي، على النحو الذي طبق في مصر، الثقافة على حالها؟، وهل تطورت الثقافة في مصر على نحو أفضل من الاقتصاد؟، ما الذي كان يمكن أن يقوله طه حسين عما حدث لمستوى التعليم في المدارس والجامعات منذ الانفتاح، ومستوى الكتابة الصحافية والبرامج الإذاعية، وما حدث للغة العربية من تخريب للغة، وانتشار الروح التجارية إلى تخريب في القيم الثقافية؟.

لا، لا يمكن أن يكون ما حدث للثقافة في مصر، مما يرضى عنه طه حسين بأي حال، ولا بد أنه كان يعني شيئاً آخر من دعوته إلى الأخذ من الغرب: «حلوه ومره»... إلخ. ولكن لا شك لدي أيضاً في أن هذا الذي حدث، لم يكن سببه (سواء من قريب أو بعيد)، ما كتبه طه حسين في 1938.

إن العوامل الأقوى تأثيراً في حالة الثقافة المصرية، من أي شيء، وكتبه طه حسين أو أي مفكر مصري آخر، قبل أو بعد 1938، كانت هي ما حدث في واقع الحياة في مصر والعالم، أوروبا حلت محلها أميركا في قيادة مسار الحضارة الغربية، والشركات الكبرى حلت محل الشركات الصغيرة، بل وشيئاً فشيئاً، حلت محل الدولة نفسها، وقفزت السلع والأفكار فوق الحدود القومية، وصار معيار النجاح والفشل في الحياة أو رقي الأمم، ليس التقدم الثقافي، بل الاقتصادي، ومعدلات نمو الناتج والتصدير والأرباح.

Email