أقنعة بلا دهشة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما الذي يمكن أن يقوله العاشق لامرأة قد أخطأت للتو بحقه، غير أن يقدّم لها اعتذاره عن أنه لم يغضب كما يفعل معظم الرجال العاديين والعفويين والأغبياء، وأن خفض جناح الذل للحبيبة، هو رفع راية النصر للحب، وأنه الشاطئ الأهدأ لكل حالات المد والجزر بين عاشقين.

ولكن إلى متى يتحمل الإنسان أن يكون في جبة غيره، وغير عادي وغير عفوي، وأن يكون بلا غباء طبيعي، وهي صفات وأمزجة تجتاح الإنسان فينا، فتحرره من قيوده وادعاءاته، وتنزع عنه أقنعته اللا متناهية، التي يظن أنها هي الأصل في شخصيته. هكذا إذاً، الإنسان فينا يغوص في أعماقه وكأنه ساحر حياته، يُخرِج من قبّعته أقنعته ويفتح متتاليات خبيئاته، محاولاً أن يجد جلده الطبيعي ويضيء قاع أعماقه المعتمة.

وكما قال الروائي العالمي أوسكار وايلد «فقط الناس محدودو التفكير يعرفون أنفسهم»، فالتفكير يجعل الحياة متجددة، ليس في ظاهرها وإنما في أعماق كل واحد فينا، وما المزاجية والقلق والمغامرة والريبة والسكون، وحتى الشعوذة والعبث، في المسلمات والتساؤلات الكبيرة، ما هي إلا محاولات للخروج من محدودية التفكير، لنعرف أنفسنا أكثر، ولكن السؤال الأهم، هل نعرفها بالفعل..

وهل هي نتاج مساحة محدودة يمكن أن نحاصرها بالأسئلة والأجوبة والقيم والأخلاق والمبادئ والخطأ والصواب والخير والشر والقلق والمغامرة والسكينة والعبث؟ وهل هي ما نسميه عمر الوعي وربيع الإدراك للذات وللتركيبات المعقدة لكيمياء العلاقات بين البشر أنفسهم، والبيئة المحيطة بنا من هواء وسماء وطبيعة وغموض ووضوح؟، لا يمكن لأحد في هذا الكون أن يَدّعي المعرفة المطلقة، ما دام الزمن يتحرك، والعلاقات تتشعب وتشغل زمناً، والأمزجة تتغير، والمعرفة تتحرك بكل الاتجاهات..

وتتضارب وتوافق كلياً وجزئياً في دواخلنا.. لا يمكن لأحد أن يدعي الحكمة المطلقة، ما دام أن ثمة نسبية تتحكم في حكمنا على الأشياء، وتحدد نظرتنا وتصوّرنا وفهمنا لأنفسنا ومحيطنا؟ لا يمكن للحقيقة حول أي شيء فينا أن تبقى ثابتة، ما دام أن ثمة لحظة ولحظات ووقت يمر بنا في زمن نعيشه؟ ببساطة، لا يمكن أن يحدث ما دام هذا الخليط الكيميائي المعقد يعتمل في عروقنا وأنفسنا وعقولنا، وحتى أحلامنا، ويحفز البعض على المشاكسة والمقارعة والبحث والتفكير، ويحبط البعض ويهزمهم ليكونوا سذجاً وسطحيين.

وهنا، يمكن للعاشق الودود الرقيق المعتذر لمعشوقته عن خطئها الكبير الذي ارتكبته بحقه، أن يتحول في توقيت لاحق، وفي ظروف أخرى إلى قاتل أهوج لحبيبته ذاتها في نفس المكان، عن خطأ بسيط لا يُذكر. إن الفرق في المسألة فقط، هو التوقيت وما سبقه من تغير وتراكم وتفاعل..

وعدم القدرة في التحكم باللحظة. فكل شيء في عالمنا مرتبط بالتوقيت، فمن تحكم في اللحظة وبمزيجها المعقد، أوتي معاول معرفة الذات وحسن التصرف وواقعيته. فكل في داخله قاتل صغير، وحالم كبير، وعاشق متيم، ومحب خائن، وصديق وفي، وعدو صديق، وحاضر غائب وغيرها من المتشابهات والمتعانقات والمتضادات والمتعارضات، هي كيمياء غامضة وعجيبة، قد تنفجر في لحظة ما على شكل بركان جارف حارق، أو تزهر في لحظة ما على شكل وردة عطرة هادئة. إنها اللحظة التي تقودنا أو نقودها.

فأن تكون ساذجاً بسيطاً غبياً وسطحياً ولا تُحفّر قيعانك وتضيئها بألمك وفرحك وقلقك، فهذا يعني أنك إنسان عابر سبيل على الزمن، فقد عممت اللحظة الواحدة على جميع سنين عمرك، فلا نسبية ولا تأثر ولا تأثير، فهي الرتابة التي تنبعث رائحتها من ركود النفس الكسولة..

وإما أن تكون متقلب المزاج، كثير الأحكام، متجدداً في عقلك وعلاقاتك وحراكك الداخلي الذي يزيد من تعقيد كيميائياتك وتفاعلاتها النفسية والمعرفية والعقلية، محاولاً ترويض اللحظة وتَبَدّل الزمن وتأثيراته، فتارّة تنجح في ترويضها وتارّة أخرى تفشل، ولكنك مع كل هذا تَحيَا الحيَاة. تنبش فيها وتحفر في أعماقك، وتزيل صفائح أقنعتك الداخلية المتتالية المتراكمة فيك، ساعياً للوصول إلى أخرها أو أكثرها تمثيلاً لك.

حتماً إنك لن تصل، فرحلة البحث ستلقي عليك بعدد لا نهائي من الأقنعة الملتبسة والمتحركة، وتظن في لحظة أن الأقنعة جميعها هي أنت، وإن تعددت ألوانها ورائحتها وهيئتها وتأثيرها ومداها وحجمها وتعبيراتها. ولكن أشد ما يؤلم المتعمّق في ذاته، أن يكتشف أن جميع الأقنعة لا تمثله أو تملك القدرة على محاصرة جذوة قلقه..

والإجابة عن أسئلته الكبيرة، فيتوقف الزمن عند هذا الحد، وتُعلّق اللحظة تَمرّدها، فلا تتجدد أمامه الحياة، فتتشابه عليه الوجوه والأقنعة، ويتساوى الحياة والموت، وكل شيء يتحول إلى أفق مسطح مكرر، وبلا دهشة أو خبيئة. عندها فقط، يعتذر الإنسان فقط من نفسه الغائبة الغامضة والمجهولة، غير آبه بالعالم، فيغيب منفصلاً، معتكفاً، منعزلاً، منفصماً أو حتى منتحراً.

 

 

Email