جارنا اليهودي..

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان والدي يحدثني عن جارهم «أبو إبراهيم» وابنه اسحق وزوجته زليخة وابنته داليا. وكان له في البلدة التي تجلس على تلة مطلة على بحر يافا دكان. يرتدي القمباز والحطَّة والعقال. «وُلِدْنا ونحن نعرفه، نشتري منه الملبس والطحين وإبر البابور والكاز، وكل ما يلزم الكبار والصغار. يجلس أمام دكانه الكبار في الصباحات المفعمة برائحة البحر ورذاذ الذكريات..

وفي العصاري يرش الأرض بالماء، يضع كراسي القش، يفتح الراديو على أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب. وبين الكراسي طاولات صغيرة عليها طاولات الزهر، والشاي بالكاسات أم جرس يقدمها ابنه إبراهيم للزبائن المقيمين حتى ما بعد العشاء، وكان يحلو السهر تحت أشجار البرتقال».

كان أبي يسهب وهو يحدثنا عن أبو إبراهيم اليهودي. وكان دائماً يردد: لم يكن أبو إبراهيم وعائلته يختلفون شيئاً عن أهل البلد. يُعيِّدون معنا عيدي رمضان والأضحى، ونعيِد عليهم في عيدهم، يحترمون جُمْعَتَنا ونحترم سبتهم. لكأنه لم يصدق كيف حدث ما حدث في ذاك اليوم من مايو 1948. طلب المختار منا أن نحمل ما نستطيع حمله ونخرج، وقال: «سنعود بعد كم يوم».

ومن قال للمختار يا أبي؟ قال: المخاتير الآخرون. ومن قال للمخاتير الآخرين؟ قال: المختار الكبير. ومن هو المختار الكبير يا أبي؟ قال : لا أدري! لكن أبو إبراهيم حزن جداً ورجانا أن نبقى، نحن أبناء هذه البلدة أهل وجيران من زمان. قلنا له: اليهود يبقرون بطون النساء الحوامل في دير ياسين ويذبحون الأطفال في قبية ويقتلون العرب في اللد والرملة وبيسان وفي كل مكان. وخرجنا.

تذكرت كلام أبي الذي كنت تحدثت عنه سابقاً وأنا أتابع مسرحية رفع العلم الفلسطيني على مبنى الأمم المتحدة. كما تذكرت يوم أعلن استقلال دولة فلسطين في 15 نوفمبر 1988 في الجزائر خلال دورة استثنائية في المنفى للمجلس الوطني الفلسطيني. واستند هذا الإعلان إلى التبرير القانوني لقرار الجمعية العامة رقم 181 (الثاني) في 29 نوفمبر 1947، الذي نص على إنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين.

وقد اعترفت دول عدة على الفور بالدولة، وبحلول نهاية العام كانت أكثر من 80 دولة قد اعترفت بالدولة المعلنة، وفي فبراير 1989 أقر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي باعتراف 94 دولة. طبعاً، ظل الاعتراف حبراً على ورق، ليتضح فيما بعد أن مهرجان الاعتراف بالدولة لم يكن إلا توطئة لتنازلات فلسطينية عربية عن جوهر القضية الفلسطينية، ونعني حق العودة للاجئين.

وقعت اتفاقية أوسلو، كجزء من محاولة تسوية القضية الفلسطينية المستمرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في سبتمبر 1993. وأصرت إسرائيل على عدم الاعتراف بفلسطين والسيطرة العسكرية الفعلية على الأراضي حتى في المناطق المنوطة بها السلطة الوطنية الفلسطينية.

كان اليهود قبل الحركة الصهيونية التي أسسها ثيودور هرتزل بمؤتمر بازل في سويسرا العام 1897 يعيشون في فلسطين كفلسطينيين، كحال يهود العراق وسوريا واليمن والمغرب ومعظم الدول العربية. لم يكن العرب يفرِّقون بين عربي ويهودي، لهم جميع حقوق المواطن وعليهم واجباته، إلا ما ندر.

لكن إنشاء إسرائيل كإحدى أهم وأول محطة في تاريخ الحركة الصهيونية بعثر الحاضر الآمن لليهود العرب، ليضمهم في مستقبل قلق متحرك على أرض فلسطين التي لا تزال على أرضها طائفة ناتوري كارتا، التي لا تعترف بإسرائيل ولا تؤمن بقيامها حتى الآن من منطلق ديني، وهذا هو الأساس، حيث إن اليهودية ديانة وليست قومية.

هل عرفتم الآن لماذا يشترط الثور الصهيوني بنيامين نتانياهو اعتراف الفلسطينيين بـ «يهودية إسرائيل» كشرط لمفاوضات الحل الذي يسمونه «نهائياً»؟!

إنهم يعودون إلى سيرتهم الأولى، وإلى عقلية القلعة وفقاً للعمى الصهيوني، وها هم إلى نهاية ولو بعد حين.

رحم الله أبو إبراهيم العربي الفلسطيني اليهودي. تذكرت أبو إبراهيم وأنا اقرأ ما قاله يهودي مُتدين يتحدث عن سرقة دولتهم، وأن ما يحكمهم الآن حركة سياسية مُبتدعة ومُلحدة. ويقول، عندما كانت نساؤنا يذهبن لأداء نسك صيام يوم الغفران، كان المسلمون جيراننا يرعون أطفالنا في غيابنا، أغلى ما نملك كنا نستودعهم إياه ليحموه، كيف يكون هذا لو كانوا هم ألد أعدائنا؟!!

لأنهم ليسوا أعداءنا، ما يحدث ليس صراعاً دينياً، إنها خدعة صهيونية لتبرئة كل مَن يُعادون نسل «سام». ويتساءل: هل تُريدون السلام وتُريدون عقد قمة لتحقيق السلام؟ تراجعوا للخلف وانظروا واقرأوا الحقائق، ليست الحقائق التي تم تزييفها بواسطة الدعوة الصهيونية، ولكن الحقائق على أرض الواقع، كيف عشنا عبر مئات السنين، في ‏اليمن والمغرب و‏تونس وفلسطين و‏مصر، في الأراضي العربية لم يعش الشعب اليهودي، مع المُسلمين سوياً من دون حقوق إنسانية، أخبروني أي أرض عربية عاش فيها اليهود من دون سلام مع المسلمين؟

هذا ليس صراعاً دينياً، إنما هو بسبب حركة سياسية مبتدعة، وهي غير مُبالية ومتعارضة مع الديانة اليهودية عبر آلاف السنين، فالصهيونية تم تأسيسها قبل مئة سنة بواسطة المُلحدين، يُريدون تحويل الديانة اليهودية من ديانة إلى عصابة قومية، وإلى قواعد مادية بحتة، ويكون الإلحاد هو صميمها.

ويطرح اليهودي المتدين، لا الصهيوني المتطرف، الحل قائلاً: فلنتراجع ونُفكر! هُناك حل.. لو أبعدنا عن السياسة، لفهمنا أننا قد عشنا وسنتعايش سوياً، نحنُ نعتذر بشدة للمسلمين وللعرب على ما يحصل لهم، لنقوم بعد ذلك بإصلاح ما حصلَ لهم، لكي نستطيع التعايش بسلام، ليس في دولة إسرائيلية، بل في دولة فلسطينية مُوحدة. الدولة المُوحدة التي عشنا فيها مئات السنين، وفيها سيتحقق السلام، وسترون أن الخمسين عاماً كانت كابوساً وسراباً، ولن تفعلوا شيئاً.

هذا صوت يهودي صادق يدرك حقائق التاريخ، فهل ندعم أمثاله وهم يشكلون نسبة عالية من اليهود غير المغرر بهم من قبل الحركة الصهيونية التي قامت على الكذب وأنشأت كذبة كبرى اسمها «إسرائيل»؟!

 

 

Email