سؤال قديم وعوالم مختلفة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن أحد أسباب تراجع سؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ التاريخي منذ صدمة التحديث مع حملة نابليون الفرنسية، يعود إلى أسباب أخرى على رأسها، التركيز فقط على الاستعمار الغربي، واستغلاله لثروات المجتمع المصري، ومعه بعض مواليه من المصريين، وإعاقته إمكانات التطور الذاتي في إطار تفاعلات المجتمع التقليدي ونخبه. هذه الوجهة من النظريات باتت نمطية لاسيما في ظل دولة التعبئة وإعادة كتابة التاريخ المصري على نحو إيديولوجي. هذا النمط الانتقائي أدى إلى غياب الدرس التاريخي النقدي، وظل درساً سردياً يعتمد على تصنيف الوقائع وتركيبها لتكوين استنباطات واستخلاصات تمالئ النظرة الأحادية والإيديولوجية للتاريخ المصري في عديد مراحله، لا شك أن الظاهرة الاستعمارية كان لها دور بنيوي في تخلفنا التاريخي، لكنها اتخذت ذريعة لعدم الكشف عن أكثر المكونات البنيوية الداخلية في ظاهرة التخلف.

استخدمت التيارات الإسلامية السياسية على تعددها واختلافها الظاهرة الاستعمارية وتأثيرات التحديث والحداثة المبتورة في التركيز على مسألة التغريب، وأنها أضاعت معها الهوية الإسلامية لدى بعضهم وشوهتها لدى بعضهم الآخر، وذلك كجزء من استخدامات سياسة الهوية المحددة المعالم والمكونات والثوابت والعابرة للمكان والزمان والتاريخ.

أيضاً النزعة الشعاراتية المعممة كنمط تفكير ساد في العقل السياسي أدت إلى التركيز على الدوران في دائرة مغلقة تمثلت في العامل الاستعماري وضرورة التحرر والاستقلال الوطني، وهو مطلب محوري للحركة القومية المصرية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً في بحث مسألة التخلف. لأن الفكر السياسي الحديث تعامل مع هذه المسألة من خلال شعارات الديمقراطية الليبرالية واستعارة بعض أشكالها حول النظام النيابي، دونما نظر فيما وراء تجارب الديمقراطية النيابية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والمسارات التي اتخذتها في كل نموذج غربي. من هنا تحولت إلى لعبة سياسية، ومجموعة شعارات وأحزاب، وطبقة شبه رأسمالية، وكبار ملاك الأراضي الزراعية ومجموعات من القواعد الاجتماعية.

ويأتي أيضاً إغفال الأبعاد الثقافية، والاجتماعية والرمزية في مقاربة مسألة التقدم والتخلف، والتحديث والحداثة، واختزال الجوانب المركبة والمعقدة فيما وراء التخلف في ثنائيات ضدية.

ثم المطارحات الإيديولوجية والانطباعية البسيطة حول هوية مصر إسلامية أم عربية أم قبطية أم مصرية، والارتكاز على بعض الانتقائيات للإجابة عن السؤال المركب والمتغير والتاريخي لمسألة الهوية ومكوناتها ومتغيراتها وتحولاتها. وسؤال الهوية أحد أسئلة الهروب الفكري التي ترمي لتحويل أسئلة التخلف التاريخي من فحص عوامله البنيوية في الهياكل الاجتماعية والثقافية والدينية والقيم والتقاليد والسلوك والتعليم والسياسة والاقتصاد. من ناحية أخرى هيمنت المقاربات الإيديولوجية الأحادية في بحث مسألة التخلف الاقتصادي، معزولاً عن التخلف الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، في حين أن هذه الجوانب المختلفة متداخلة على تمايز كل بنية. تحيزاتها واختلال سياسات التوزيع وسياسة الإحلال محل الواردات.. الخ.

في بحث التخلف السياسي، كان التركيز على الديمقراطية والحريات والأحزاب والانتخابات وإصلاح اختلالات النظام التسلطي.. الخ، دونما بحث علاقة السياسي بنظام القيم الاجتماعية، والجذور الثقافية التي تشكل إعاقات تبني الديمقراطية الليبرالية والاجتماعية في المكون الديني الوضعي، وفي القيم التسلطية، والإكراهية السائدة.

البحوث الاجتماعية الميدانية ظلت محدودة، وعديد نتائجها تشوبه الأخطاء وبعضها يفتقر إلى عمق المعالجة والتحليل، وظلت منفصلة عن السياسي والاقتصادي والثقافي والقيمي.

من ناحية أخرى ثمة نظرة تجزيئية ومعممة وسطحية في النظر إلى التقدم والتحديث والحداثة وما بعدها والعولمة، ويتمثل في الخطاب حول الغرب، وكأننا إزاء كيان موحد ومنصهر في مفهوم الغرب، وتم بناء عالم من التعميمات والتصورات حول الغرب، بينما لم ندرس في العمق التجارب الغربية المتعددة والمتنوعة داخل هذا الغرب، وهو ما أدى إلى تعميمات مجنحة.

ثمة أيضاً عدم تابعة لأسئلة جديدة حول آسيا الناهضة وتجاربها المتعددة في التنمية في الصين، وسنغافورة، وماليزيا وكوريا الجنوبية والهند، وإندونيسيا، ولم تحظى سوى بدراسات محدودة وأولوية، وكأن سؤال التقدم والتخلف القديم/ الجديد قصراً على الغرب «الأسطوري»!

تغيرت الدنيا، وعصفت بنا الأزمات والهزائم وتراكم التخلف التاريخي وتفاقم، ولا نزال نعيد السؤال القديم والممتد لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟! بينما حدثت ثورات هائلة في التقنية والأفكار والمفاهيم والنظريات، وفي السياسة، والثقافة والمعرفة، ونحن نعيد سؤالاً قديماً، هو في ذاته تعبير عن تخلفنا التاريخي.

Email