الجبهة الموازية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في شمالي مدينة سان بترسبرغ الروسية في مبنى أبيض اللون ذي نوافذ كثيرة لا تفتح ستائرها إطلاقاً في شارع سافوشكينا 55 تقف لافتة مكتوب عليها (مركز أعمال) وفي الحقيقة هي مقر ما يُسمّى بـ»مصانع الترول« حيث مئات الشباب الذي جندتهم الحكومة الروسية يعملون على مدار الساعة لإغراق الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة برسائل متوافقة وتوجهات الحكومة ومناوئة لمعارضيها وللغرب وتُتخِم الإنترنت بوابلٍ لا يتوقف من الرسوم الكاريكاتورية »المؤدلجة« والمسيئة للغرب وعلى رأسهم الرئيس الأميركي أوباما.

لم تعد الدول الكبيرة مكتفية بترساناتها الحربية وأسلحتها ذات القوة التدميرية الهائلة ولا بقدراتها الدبلوماسية العالية، إذ أصبح الإعلام منذ ظهور الإنترنت منعطفاً تاريخياً لمعرفة حقيقة ما يمكن أن تصل له ما تُعرف بـ»القوة الناعمة« لهذه الدول، فلم يسبق خلال التاريخ البشري الطويل وفي أي حقبة من حقبه أن كان للإعلام مثل هذا التأثير الذي نراه متفجراً هذه الأيام والذي أصبح ينتقل بأخباره ورسائله الصحيح منها والكاذب، والواضح منها والمبطّن، والمخيِّر منها والمسيِّر بسرعةٍ ضوئية لا تعرف الحدود ولا تؤمن بالخصوصيات ولا تترك منزلاً إلا اقتحمته ولا عيناً إلا وأغرقتها بعدد مهول من الرسائل الإعلامية المتنوعة و»الموجّهة« في أغلبها لتغيير القناعات وتوجيه الرأي العام لمسارات معينة.

لُعبة تغيير القناعات ليست بالأمر الجديد، وربما يكون الرئيس الأميركي ويلسون عام 1916 هو أول من استخدمها بشكل جلي في منتصف لهيب الحرب العالمية الأولى، عندما لاحظ النزعة المسالمة للغاية لدى المواطنين الأميركيين وعدم رغبتهم بخوض حرب أوروبية لا تعنيهم كثيراً، فقام بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها (لجنة كريل) والتي نجحت ببرامجها الإعلامية المكثفة والممنهجة بدقة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين محمومين بكراهية الألمان وأعوانهم ومتعطشين للحرب وتدمير كل ما هو ألماني وإنقاذ العالم من شرورهم!

الانتصار على الأرض لا بد أن يسانده انتصارات مشابهة في عقول الناس وفي توجيه الرأي العام قبل أن يوجّهه الطرف الآخر، ومع النجاحات المتلاحقة لعاصفة الحزم الميمونة لإنقاذ اليمن من عصابات الشر والفوضى والتي تساندها لوجستياً وإعلامياً إيران لا بد أن يكون لدينا نجاحات بالكفاءة نفسها في الجانب الإعلامي، والتي لا زلت أرى، كوجهة نظر شخصية، أنها أقل بكثير مما يجب أن تكون خاصة فيما يتعلق بتوضيح الصورة للرأي العالمي، إذ أن أغلب ما يطرح في وسائل الإعلام موجّهٌ للداخل لأنه بلغتنا نحن لا بلُغات العالم المختلفة، وما يتم تداوله ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي في أغلبه من اجتهادات أفراد محبين لبلادهم ومسكونين بحميّةٍ وطنية عالية، بينما يفترض أن يكون هناك حضورٌ أكبر لمراكز بحثية ذات رسائل مركّزة يتم اختيار توقيتها والفئة المستهدفة لها بعناية، ولا يتوقف الأمر عند مجرد نقل أخبار الانتصارات وعدد المواقع التي تم قصفها، فمثل هذا النقل »يُعرِّف« المتلقي ولا »يوجّهه« وهناك فرق هائل بين الاثنين!

لا أقصد أن دور الأفراد غير مجدٍ، بل هو مهم للغاية ولكن كمساند لدور المراكز البحثية حتى تكون الحركة في المسار ذاته وبالإطار نفسه وبالزخم المتدرج ذاته دون اجتهادات مرجوحة أو حماس قد يُخرِج الشخص بحسن نية عن المعلومة المراد التركيز عليها أو تلك المراد إغفالها تماماً، فهذه الحرب ليست نهاية مطاف ولكنها بداية مرحلة، فالأعداء كُثُر ومن أشعل هذه الحرب مازال يؤجج بؤراً كثيرة تُحيط بالخليج، ومن المهم أن تكون السياسة الإعلامية واضحة الإطار وذات تركيز كبير و»نَفَسٍ« طويل وليس »هبّة« سريعة يعقبها انطفاء أو انكفاء يُفقد رسالتها ذاك الزخم المطلوب لترسيخها والتأكد باستمرار من كونها »حيّة« في الوعي المجتمعي.

في هذه المرحلة نحتاج لكل فكرٍ وطنيٍ واعٍ ولكل قلم نزيهٍ متنزّهٍ عن العلائق الشخصية البحتة، نحتاج لمن يزيد من تماسك شعوبنا ويُشعر حلفائنا بثقتنا بهم وتقديرنا لدورهم واعتزازنا بمساهماتهم الكبيرة ووقوفهم معنا في خندق واحد في دحر هذا الشر المستطير الذي يكتنف منطقة الخليج، ساقوا أرواحهم قبل إمكانياتهم معنا لاجتثاث عصابات الدم والإرهاب التي تحاول بث الموت في عرض الخليج وطوله، ويتساقط شُهداؤهم مع شهدائنا من أجل حماية أهلهم وأهلنا وأطفالهم وأطفالنا ومستقبلهم ومستقبلنا، نحتاج لكل قلمٍ شريف وصوتٍ ذي مروءة يشكرهم ويعترف بوقفتهم ويحفظ قدرهم ويحترم قيمهم ورموزهم ومنهجهم، ذلك المنهج الذي جعلهم يقفون بجانبنا عندما أصاب الخَوَر كثيرٌ ممن حولنا، وبالتالي لا بد من إخراس كل قلمٍ سفيه وفكرٍ أجوف يقوم بالإساءة لهم وبشكل غريب في توقيته وفي أسلوبه، فعدو عدوك صديقك، وعدو صديقك عدوك، ومن جاهر حليفك بالإساءة والطعن والتحقير في هذا التوقيت تحديداً فهو شخصٌ لا يهتم بصالح وطن ولا يعبأ بذلك الخطر المحدق بنا ولا يرى أبعد من طائفيته البغيضة وحقده الدفين.

لم يعد قطاعٌ كبير من الإعلام العالمي يصوّر الأحداث ولكنه أصبح يعيد تركيب الصورة ويختلق وقائع أخرى كثيرٌ منها مكذوب مصطنع لإعادة برمجة الوعي العام، فخلال العدوان على غزّة عام 2014 استخدمت إسرائيل وسائل الاتصال الاجتماعي كمنصات لتبرير عدوانها أمام الرأي العالمي، ولداعش قرابة 46 ألف حساب فعّال على تويتر تنشر أفكارهم الشيطانية وتُجنّد الكثير من الشباب وتحصل على تبرعات من أماكن ومنظمات مشبوهة، ومنذ قامت عاصفة الحزم أنشأت إيران فيلقاً إلكترونياً يُعرَف بـ»آرتش سايبري« بعشرات الآلاف من المعرفات على تويتر وفيسبوك بأسماء يمنية وخليجية لاختلاق الأكاذيب وتشويه دور دول التحالف لتحرير اليمن، ومثل ساحات المعارك الجديدة تحتاج لآلياتٍ جديدة لا مجال للاجتهادات أو الاعتماد على حماس الأفراد بها، بل لا بد من منهجية متكاملة تُعطى الأولوية القصوى لتنفيذها اليوم إن لم يكن بالأمس!

Email