بالأبيض والأسود

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل 67 عاماً، بالأبيض والأسود، كانت عذابات المهجرين من الفلسطينيين من وطنهم فلسطين، أما اليوم فهي بكامل الألوان عبر شاشات التلفاز نشاهد الجيل الثاني والثالث والرابع، وقد يكون الخامس، وهم يهاجرون ويُهَجَّرون من جديد في كامل الفصول الأربعة...

ولكن هذه المرة ليسوا وحدهم في أتون العذاب والشتات، فمعهم إخوة لهم ممن حضنوهم وجاوروهم عند كل هجرة وتهجير. صادفت عجوزاً وقد تجعد على جبهته الزمن، وهو من الجيل الأول ممن طال عمرهم وأخطأهم الرصاص الطائش أو الجوع الكافر وأهملهم الموت العبثي المجاني الذي يعصف بمنطقتنا منذ عقود فبقوا على قيد الحياة صدفةً، شاهدته جالساً مرتدياً ثيابه ..

وقد بلغ في الألم والوحدة عتيّاً. في ظهيرة يوم لافح، وعند عتبة منزله المتهالك في أحد مخيمات الشتات، حيث ترقد حوله القطط الهزيلة فيما تبقى من ظلال الظهيرة، اقتربت منه فلم يلحظني، وألقيت عليه التحية فلم يسمعني، اقتربت أكثر، وانحنيت له وتفحصته حياً، ميتاً، أم نائماً أم غائباً، فلم أجزم. أدركت أنه على قيد الحياة فقط عندما عصر جفنه الأيسر بدمع جرف بعض الغبار على تجمع زاوية الجفن، اقتربت أكثر..

ووضعت يدي فوق يده مواساة وإشعاراً له أن ثمة آدمي على قيد الحياة حوله. فتح عينيه وقد غطى بياضها وسوادها مرض المياه الزرقاء، وهي المياه التي تصيب عيون كل البشر عندما تطول أعمارهم، فتُضْعف البَصَر. كررت تحيتي، بصوت مرتفع فاتجه بأذنه نحوي ورد التحية، ماسحاً دمعته التي سالت حتى وصلت شاربه الأصفر اللون من جراء ما صبغه التدخين.

سألته عن حاله، فأكد لي أن لا بأس في حياته، ما دام للجدار ظل يحميه من الشمس، ويسند ظهره عندما يأخذ قيلولته اليومية جالساً، وما دام أن الأرض تنزّ مياهها ويشرب من النبع المجاور، وما دام أن عابري السبيل أمثالي يُلقون عليه بالتحية ليذكروه بأنه لايزال على قيد الحياة حيث يحيا مع كل نسمة صيفية تلف المكان تعيد له أنفاسه من جديد. سألته عن زوجته وأولاده وأحفاده وإخوته.

قال لي جاؤوا وذهبوا، عاشوا وماتوا، حضروا وغابوا، وهُجِّروا فهاجروا، وأنا هنا ليس في انتظار أحد سوى الذين ماتوا لأنهم الواقع الحقيقي والوحيد المؤلم في حياة الأحياء المتخلفين المتأخرين عن الموت أمثاله. أنهى عبارته وشدّ على يدي وعصرها بكل ما بقيت وما أوتي من قوة.

سألته من هم؟ قال لي من ماتوا بين يدي أيام هجرتي قبل 67 سنة... فقلت مواسياً ومستغرباً: أما زلت، على مدار هذه العقود وما عشته أنت وتعايشت معه من مآسٍ وعذابات وجروح وأحداث غائرة في الذاكرة والنفس والجسد، أما زلت تعيش على ذكراهم، ألم تتبعثر صورهم وتهاجرك مع الذين هاجروا! ألم يحل الألم الجديد مكان الألم القديم! ردّ علي..

وقد عدّلَ من جلسته قليلاً وبما سمحت له قواه: الذاكرة كالبئر، تأتي المياه وتذهب ولكن القاع يبقى، والمرة الأولى التي نغرف فيها المياه لا ننسى تلك البئر أبداً حتى لو وردناه آلاف المرات. كيف لي أن أنسى أختي الصغيرة الفطيمة التي كنت أكبرها فقط بعشرة أعوام ..

وقد ماتت بين يدي تحت الشمس اللاهبة بجانب بئر الماء المتسخة وعلى بعد عشرات الأمتار فقط من البحر الميت، ماتت بين يدي وأنا أعصر قطرات المياه التي انتشلتها عن طريق شريط كوّنته من ثوبي الذي مزّقته وعقدته وصلة فوصلة ليصل الماء فيمتص بعض القطرات.

فتح العجوز عينه وكأنهما قطعتان من زرقاء البحر وبلورة من الذكريات، حابسا دموعه متهدجا في صوته: لقد ماتت قبل أن تَرْوِي عطشها.. ماتت ولم تعلم من أين جاءت وإلى أين ذهبت، ولماذا هاجرت في غير موعدها، ولماذا عاند وجهها الغض لهيب الشمس.

وقال بصوت حزين مدّعياً الثبات والقوّة التي استمدها عبر ما رآه خلال سنوات عمره المديد: كيف يعلوها ألم، وقد ماتت بين يدي!. قالها وانفجر في البكاء، لو أني وصلت البئر مبكراً، لو أننا ما هاجرنا نهارا تحت الشمس، لو أن والدي لم يمت قبل أسبوع مجهول الهوية والمكان، لو أن أمي أبقت القليل من الحليب في ثدييها، لو أن سحابة تأخرت عن موعدها أو أخرى وصلت مبكرة لتظلل تلك الصغيرة على طريق البئر، فلا تموت جفافاً.

قلت له وأنا أشد على يديه التي ما تركتها أبداً: المآسي من بعدها كثيرة ومريرة وهي سلسلة آلام تساوي مأساتك الأولى أو تزيد، فالمآسي عمَّت وفي غير مواعيدها، فالطيور تهاجر، وتموت قبل وأثناء وبعد فصول هجرتها. والبشر جزء من هذه الطبيعة. قال نعم، لكن الطيور لا تموت عطشاً، وتهاجر طوعاً لتعود طوعاً، وموطنها هو مسار ومحطات هجرتها...

أما أنا في رحلة هجرتي من وجع إلى آخر ومن بلد إلى آخر، رأيت في أختي الضحية قبل 67 عاما، رمزا للألم في داخلي وجسداً كاملاً لحزني ومنبراً صامتاً لكل الذين ماتوا ولم يموتوا، للذين جاؤوا ولم يحضروا، للذين هاجروا ولم يعودوا، والذين وُلدوا ولم يعيشوا. إنها الذاكرة الأليمة القسرية التي أراها بكل وضوح رغم ضعف بصري الشديد، وأسمع صداها الخافت رغم سمعي الضعيف، فلاتزال أختي الفطيمة أمامي حيّة بالأبيض والأسود، رغم ما اجتاحتني من مصائب بكل الألوان.

 

Email