إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخبرنا التاريخ دائما أنه ليس هناك أمة من الأمم ارتقت مرتقى صعبا على سلم الحضارة الإنسانية بما تملكه من ثروات مادية وكيان اقتصادي متين أو قوة بشرية وعسكرية فحسب، غير أن تلك الثروات البشرية والمادية تأطرت بسياج من الأخلاق والقيم التي تجعل للتقدم هدفا ساميا وغاية كبرى تحمل رسالة خير للإنسانية، ويمكن أن أذهب أبعد من ذلك إلى أن الأخلاق والقيم قد تمثل قوة الدفع المحفزة للرفاه والتقدم، حتى وإن عزت الموارد وتضاءلت الثروات.

وآية ذلك والشاهد ما حدث لليابان بعد الحرب العالمية الثانية عندما دكت مدنها وأصبحت وسطح الأرض سواء، غير أن إمبراطور اليابان خرج على شعبه مستدعيا تاريخ الشعب الياباني وموقظا ما لديهم من قيم توارثوها، فكانت النتيجة تلك المعجزة الاقتصادية التي حققتها اليابان، وهي الفقيرة في ثرواتها الطبيعية لكنها الغنية بقيم متوارثة من جيل إلى جيل.

أقول هذا بعد أن استوقفني كثيرا، وإن لم يفاجئني ذلك المقطع الذي تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي، ويظهر معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، يستسمح فيه من مسنة إماراتية اعتقد أنها تأثرت بغبار الطائرة التي كان يستقلها أثناء تأديته واجب العزاء لأسرة الشهيد عبد الرحمن البلوشي، في منطقة الراشدية في دبي أمام منزلها.

ومن الواضح أنه لم يكتف بذلك بل جلس إلى جوارها يتجاذب أطراف الحديث، ولم يتركها إلا وهي مبتسمة، ولم تتركه إلا وهي تدعو له بالخير والسداد.

في تقديري أن السلوك الذي جاء به معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان لا تقف حدوده عند الموقف ذاته بقدر ما يحمل رسالة واضحة لما يجب أن يتعامل به أبناؤنا مع الوالدين، أما كانت أو أبا، وأن أبواب العالم مهما اتسع مداها وهبت على أوطاننا منها ريح مختلفة لا يجب أن تقلع شبابنا عن جذورهم وأصالتهم والسلوكيات التي تربينا عليها في احترام الكبير وتوقيره، حتى ولو لم يكن بيننا وبينه سابق معرفة.

ولأن الحكيم يقول «سلوك رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل»، لذا فإن هذا المشهد أبلغ وأكثر تأثيرا من عشرات المحاضرات واللقاءات والمقالات التي تدعو أبناءنا إلى الالتزام بمكارم الأخلاق في رسالة عملية بليغة، تجعل ما قام به معالي الشيخ نهيان بن مبارك قدوة يحتذى به خلقا وسلوكا.

كما أن قيام معاليه بالذهاب إلى الوالدة المسنة الجالسة يكشف عن مكانة المرأة في المجتمع الإماراتي، صغيرة كانت أم بلغ منها العمر مبلغة، إعمالا لحديث الرسول الكريم «ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم»، ولأنه من سجاياه دماثة الخلق، منذ أن عملت تحت رئاسته بجامعة الإمارات وأنا في مقتبل حياتي المهنية، وكيف كان يفتح قلبه وعقله لكل من طرق بابه بروح الأخ الأكبر.

وصاحب المسؤولية الحازم في غير قسوة، والمربي في غير نهر أو زجر، فاعتز كل من عرفه بالاقتراب منه والعمل معه حتى في القرارات القاسية التي كانت تطال من أصاب إهمالا في عمله أو تقصيرا أو تجاوزا، لم يكن البعد الإنساني غائبا عنه، فكان حزم الموجه والمعلم، متناغما مع هيبة الإدارة وعظم المسؤولية.

كما أنه الكريم في خصاله، فمجلسه الذي لم تغلق أبوابه ذات يوم في وجه من قصده جعل الوفود تترى لتحيته، سواء من يعملون معه أو من تفرقت بهم سبل الحياة في شتى الدروب، إلا أن آصرة المحبة والتقدير ظلت باقية يزداد عراها توثقا يوما بعد يوم.

إن من يلحظ السلوك التلقائي الذي صدر عن الوزير الخلوق، معالي الشيخ نهيان، لهو عنوان كبير للعلاقة التي تربط بين أبناء الإمارات مهما كانت مسؤولياتهم وتباينت مناصبهم، حكاما أو محكومين، ساسة أو من أبناء الشعب، فالكل على أرض الإمارات سواء، ورباط الوطن أعلى وأغلى، وهو بهذا يكشف عن سر نجاح تجربة الاتحاد بين إمارات الخير وسر وحدة البيت الإماراتي، ذلك أن اتحاد النفوس سبق اتحاد الجغرافيا، وإن شئت الدقة إن اتحاد الروح فرض الوحدة على الأرض فصارت أمرا واقعا.

إن الأخلاق الراقية هي سر حضارة الأمم وديمومتها ومهما رأيت من عظيم البنيان وضجيج المصانع وحركة التجارة في غياب الإطار الأخلاقي فهي لا محال إلى زوال، ذلك «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا».

 

Email