هذا مب فريجنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

دونما تخطيط مسبق، قادتني قدماي إلى «فريجنا» القديم؛ «فريج الضغاية» في ديرة بدبي.

وعندما أقول «فريجنا» القديم فأنا أفتح كل الأبواب والنوافذ على الذاكرة، بكل ما فيها من أحداث بعضها حلو وبعضها الآخر مر؛ على الوجوه الطيبة التي عرفنا على يدها معنى البذل والعطاء دون مقابل، ثم عرفنا بعد ذلك معنى الفقد بعد أن غادرت دنيانا، على أيام الطفولة وأصدقاء «الفريج» الذين باعدت بيننا وبينهم الأيام بعد أن مضى كل في طريق مختلف، على التفاصيل الصغيرة التي لم نعد نهتم بها بعد أن غدونا نسابق الزمن كي نلحق بسراب لا نعرف له نهاية، على أشياء جميلة نندم الآن كثيراً لأنها تسربت من بين أيدينا في غفلة منا ومن الزمن.

في «فريجنا» القديم رأيت كل الوجوه إلا وجهي الذي تركته قبل الرحيل هنا. كنت أحسب أنني سأرى شيئاً من ذلك الوجه الذي تركت ملمحاً منه عندما رحلنا عن «الفريج»، لكنني للأسف لم أجد شيئاً من تلك الملامح! هل تقادم الزمن على وجهي الذي تركت منه شيئاً هنا إلى الدرجة التي طمست الأيام معها ما تركت، أم أنني أنا الذي أهملته ولم أعد لزيارته كما كنت أنوي أن أفعل عندما رحلنا عن «الفريج» ذات يوم كي أعود إليه؟

هل تعمدت أن أفعل ذلك بعد أن أخذتني الحياة إلى شواطئ كثيرة، ليس من بينها ذلك الشاطئ الذي عشت عليه أجمل أيام العمر، أم أن ذاكرتي تآكلت إلى درجة أنها لم تعد تحتفظ بذلك الوعد الذي قطعته على نفسي؟

في «فريجنا» القديم اختلطت الأصوات مثلما اختلطت الوجوه، وحده صوتي لم يعد له أثر وسط هذا الخليط العجيب من اللغات واللهجات التي سمعتها، ووحدها الغربة أطلت من بين تلك الأصوات التي تحولت إلى مطارق تهوي على رأسي حتى كادت تحطمه، وسببت لي صداعاً من ذلك النوع الذي لا دواء له.

كانت أجهزة المذياع في المقاهي التي مررت بها تتحدث لغات ليس من بينها اللغة التي كنت أسمعها في «إذاعة صوت الساحل من الإمارات المتصالحة». وكانت أجهزة التلفاز مضبوطة على قنوات تعرض برامج ليس من بينها شيء يشبه تلك البرامج التي كنا نشاهدها في «تلفزيون الكويت من دبي» عندما كنا نتحلق حول شاشته.

جولتي في «فريجنا» القديم لم تستغرق أكثر من 30 دقيقة بحساب عقارب الساعة التي في معصمي، لكنها بحساب الشجن الذي تأجج استغرقت دهراً من الصعب حساب سنينه، لأنها كانت رحلة في الذاكرة أكثر منها رحلة في اللحظة العابرة. جولة نكأت جروحاً كنت أحسبها قد اندملت، وكشفت حُفراً كنت أحسبها قد رُدِمت. جولة ربما احتجت عمراً آخر كي أعيد تجبير الكسور التي انكشفت خلالها، ولم يعد في العمر ما يكفي لفعل هذا كله. جولة طرحت أسئلة من نوع: لماذا هجر الناس فرجانهم؟

رغم أنه سؤال متأخر جداً، إجابته شبه معروفة، رغم أن البعض يعتبرها غير مقنعة، ورغم أن إعادة طرح السؤال لن تغير من الواقع شيئاً، بل ربما زادته مرارة، ولكن من ذا الذي كان يهتم بالسؤال وإجابته عندما قرر ذات زمن ملتبس الرحيل عن فريجه، هرباً من البيوت الصغيرة ذات الأحواش الضيقة، كما كان يدّعي، إلى البيوت الكبيرة ذات الأحواش الواسعة؟

ومن ذا الذي يمكن أن يعيد أصحاب النفوس الكبيرة الذين كانوا يسكنون تلك البيوت، بعد أن رحلوا تاركين لنا «الفرجان» التي لم تعد تحمل من رائحة ذلك الزمن إلا هذه الأسماء التي ما عادت هي الأخرى تعبر عمن يسكنها، بعد أن أعاد ساكنوها الجدد رسم معالمها؟

كيف تركنا «فرجاننا» القديمة للغرباء يعيدون تشكيلها، ويرسمون معالمها بسحناتهم المختلفة عن سحناتنا، وأزيائهم المختلفة عن أزيائنا، وروائح أطعمتهم المختلفة عن أطعمتنا، وهربنا نحن إلى المناطق البعيدة، نشيّد فيها المنازل الفارهة، بحجة أن بيوتنا القديمة لم تعد تتسع لنا، ولا تليق بمقاماتنا العالية، ولا وظائفنا المهمة، ولا أوضاعنا الاجتماعية الجديدة؟ وهل وجدنا راحة نفوسنا عندما ابتعدنا عن «فرجاننا» القديمة؟

عودوا إلى «فرجانكم» القديمة، فربما تنسمت فيكم بقية من رائحتها التي ذهبت كي تعود إليها ذاكرتها، أما أنتم فلن تتنسموا فيها الرائحة التي كنتم تعرفون، لأنها لم تعد كما تركتموها ولن تعود أبداً.

اتخذوا مما بقي على حاله من بيوتها متاحف تذكركم بذلك الزمن الجميل الذي مضى، كما فعلت الدكتورة رفيعة غباش، وزوروها مع أبنائكم الصغار لتحدثوهم عما بقي في ذاكرتكم عنها، قبل أن يأتي يوم لا يجدون فيه من يصطحبهم إلى هذه الأماكن، ولا من يخبرهم عنها، ولا من يحمل ذاكرة فيها من رائحة هذه «الفرجان» بقية أو ذكرى.

«هذا مب فريجنا» هي العبارة التي وجدت نفسي أرددها وأنا أغادر آخر «سكة» من سكيك «فريج الضغاية» الذي لم يعد «فريجنا» الذي كنت أعرفه، ميمماً شطر البحر الذي كان يحتضن ساكنيه، رغم قسوته أحياناً، كي أحتضنه أنا هذه المرة، وأبثه ما يختلج في نفسي، لأطمئن إلى أن يد التغيير لم تمتد إليه هو الآخر، كي يبقى هو البحر الذي لعبنا على «سيفه» صغاراً، وتشربت أجسامنا ملوحة مائه، وتفتحت مداركنا على هدير موجه، عله يعيد إلى ما كان ذات يوم «فريجنا» رونقه الذي ذهب، وإلى نفوسنا الإحساس بالأمان.

Email