أي برلمان تنتظره مصر؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأت في مصر الخطوات العملية لإجراء انتخابات مجلس النواب، وهي الخطوة الأخيرة في خريطة الطريق التي تم إعلانها عقب إسقاط حكم الإخوان الفاشي في 30 يونيو قبل عامين.

كان من الممكن أن تتم هذه الخطوة قبل ذلك بكثير، لولا موجة الإرهاب التي رعتها جماعة «الإخوان» التي سعت - وما زالت تسعى - بكل الطرق لتعطيل هذا الاستحقاق لاستغلال ذلك في الترويج لأكاذيبها حول عدم استقرار الأوضاع في مصر، وحول جمع الرئيس السيسي - بحكم الدستور - لسلطة التشريع بجانب سلطته التنفيذية لحين انتخاب البرلمان الجديد وهو ما يدحضه أن كل التشريعات التي يصدرها السيسي - في غياب البرلمان - سوف تعرض على مجلس النواب فور انعقاده لاعتمادها أو إلغائها.

الآن.. تم تعيين اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات. وخلال أيام سوف يتم الإعلان عن مواعيد التقدم للترشيح وإجراء الانتخابات - لكي ينعقد البرلمان الجديد قبل نهاية العام، وتكتمل بذلك كل خطوات خريطة الطريق.

الانتخابات تجمع بين النظامين الفردي والقائمة. لكنها - في حقيقتها - انتخابات فردية في الأساس، حيث يتم بهذا الأسلوب اختيار ما يقرب من 80% من أعضاء البرلمان، بينما تخصص القوائم في معظمها للفئات التي نص الدستور على إعطائها ميزة تفضيلية استثنائية بتخصص مقاعد لها.. كالعمال والفلاحين والعاملين بالخارج وذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه الاستثناءات هي التي فرضت تخصيص جزء من مقاعد البرلمان ليتم اختياره بنظام القوائم المطلقة لاعتبارات عملية.

والغريب أن الأحزاب السياسية تكرس جزءاً كبيراً من وقتها منذ فترة طويلة للتباحث حول الائتلاف فيما بينها لهذه القوائم، بينما يتم إهمال 80% من مقاعد البرلمان التي سيتم اختيارها بالنظام الفردي، والتي يبدو أن الأحزاب ستخوضها دون اتفاق فيما بينها، ودون النجاح في تشكيل ائتلافات حقيقية تتفق فيما بينها كما كان مطروحاً على الأحزاب المدنية منذ صدور الدستور واعتماد النظام الانتخابي.

ومع اقتراب موعد فتح باب الترشيح للبرلمان الجديد، يبدو المشهد الحزبي شديد الارتباك، وتزداد المخاوف من النتائج التي يمكن أن تترتب على سوء اختيار أعضاء البرلمان الذي يفترض فيه أن يكون الأقوى في تاريخ الحياة النيابية في مصر، بحكم السلطات الواسعة التي منحها له الدستور الجديد.. بدءاً من التحكم في تشكيل الحكومة إلى الحق في عزل رئيس الجمهورية في ظروف استثنائية!

وقبل شهور كان السيسي يناشد الأحزاب أن تتفق، لكنه خلال الفترة الأخيرة - وبعد أن أخفقت جهود الاتفاق - اكتفى بمخاطبة المواطنين والقوى الفاعلة بالمجتمع لكي يحسنوا اختيار أعضاء البرلمان ليقوموا بمهامهم الخطيرة في هذه الفترة الصعبة.

كان المفترض أن تكون الأحداث التي مرت بها مصر منذ ثورة يناير قد انضجت الحياة الحزبية. لكن - للأسف الشديد - ما حدث هو العكس، الأحزاب الجديدة التي نشأت بعد الثورة لم يستطع معظمها أن يجد مكاناً له في الشارع السياسي، والأحزاب القديمة تبدو عليها ملامح الشيخوخة وعلامات الانهاك، والكل يتساوى في عدم الاستقرار والخلافات والانشقاقات التي تبدو - بصورة جلية - في حزب الوفد الذي يتنازع الجميع على تاريخه دون اعتبار لمستقبله! وكذلك في حزب «الدستور» الذي نشأ برعاية البرادعي وانتهى- كما يبدو- بانتهاء دوره السياسي!

باقي التيارات لم تسلم من داء الشرذمة والتفرقة، اليسار- كالعادة- منقسم على نفسه، والناصريون لم تنجح كل محاولات لم شملهم، والليبراليون أفسدتهم سطوة رجال الأعمال على أحزابهم حتى وجدناهم لا يختلفون على مبدأ، وإنما على خطف المرشحين الذي أصبح إحدى السمات الأساسية في الحرب الدائرة استعداداً للانتخابات.. في ظاهرة فريدة من نوعها، وربما لن تجدها إلا في الانتخابات المصرية!

ففي ظل غياب النفوذ الحقيقي للأحزاب السياسية، عادت العصبيات العائلية والقبلية لتكون أساس التنافس خاصة في الأقاليم. وهنا برزت أسماء تملك فرص النجاح تحت أي لافتة، ولا تهتم بالسياسة إلا بحسبانها طريقا لعضوية البرلمان وتحقيق بعض المطالب للدوائر التي يمثلونها والكثير من الامتيازات لأنفسهم وعائلاتهم.

هذه الأسماء (ومعظمها كانوا أعضاء في برلمانات ما قبل الثورة وكانوا أعضاء في الحزب الوطني) يجرى التنافس بين أحزاب رجال الأعمال (التي تقول إنها ليبرالية) لضمان مقاعدها في البرلمان، ويتم نصب المزاد تحت لافتة تمويل الحملة الانتخابية للمرشح، حتى لو كان ما يتم دفعه يزيد أضعافاً على ما تتكلفه هذه الحملة الانتخابية!

بالطبع.. هناك قوانين تحدد قيمة ما ينفق في الحملات الانتخابية، لكن المراقبة غائبة، ووسائل التحايل أكثر من المتصور، والمال السياسي لعب كما يريد. ووسط هذا كله يبدو حزب «النور» الممثل للتيار السلفي هو الوحيد القادر على تنظيم صفوفه وحشد أنصاره، وتقديم نفسه كممثل وحيد للتيار الإسلامي بعد سقوط «الإخوان» الذين يناصبونه العداء ويوجهون له الاتهامات بالخيانة..

ومع ذلك فلا أحد يضمن ألا يذهب جزء منهم أو من حلفائهم لدعم حزب «النور» أو عقد الصفقات معهم، فهكذا تعودنا من «الإخوان» على مدى تاريخهم، حيث الغطاء الديني يستخدم لإخفاء الانتهازية السياسية التي لم يتوقفوا عنها يوماً!

وفقاً للمعطيات الحالية.. البرلمان المقبل في مصر لن يكون برلمان الثورة.. فهو برلمان انتقالي، وتكوينه لن يؤهله للقيام بالمهام الدستورية المنوطة به. سيكون للتيار الإسلامي «ممثلاً في حزب النور» مكانه وإن كان بنسبة لا تتجاوز الـ10% أو الـ15% على أكثر تقدير،..

وسيكون لبعض الأحزاب تمثيلها الذي لا يمكنها من حسم الأمور، وستكون الأغلبية للمستقلين، سواء كانوا من الذين انتموا سابقاً للحزب الوطني أو لم ينتموا، فهم في النهاية «نواب خدمات» ولاؤهم للحكومة التي تحقق مطالب دوائرهم، حتى لو امتزج ذلك - كما عودونا - بالقليل أو الكثير من الفساد.

الحقيقة الأساسية في الموقف.. أن البرلمان المقبل في مصر ليس برلمان الثورة. والسؤال الأساسي: هل يمكن أن يكون هذا البرلمان - بكل سلبياته وإيجابياته - هو الذي يمهد الطريق لجيل الثورة.. أم سيكون السد الذي يغلق هذا الطريق؟!

 

Email