الأحزاب «الدينية»!

ت + ت - الحجم الطبيعي

تجدد الجدل في الآونة الأخيرة حول شرعية وجود الأحزاب ذات الطابع الإسلامي، وانقسمت الآراء بين مدافع عنها ورافض لها، خاصة بعد أن تضمن الدستور الجديد مادة تحظر قيام أحزاب على أساس ديني، إلا أن عدم ترجمة هذه المادة في قانون أو تعديل قانون تنظيم الأحزاب السياسية، بما يتوافق معها، ترك الباب مفتوحاً لمثل هذا الجدل.

بداية لا بد من التأكيد على أن المقارنة هنا يجب أن تكون نسبية، لأن الواقع هناك غير الواقع هنا، فالتجربة الغربية تفصلها مسافات زمنية وثقافية وحداثية عن مثيلتها الشرقية، ومسار تطور الفكر المسيحي ليس هو مسار تطور الفكر الإسلامي نفسه.

نشأت الأحزاب الديمقراطية المسيحية بعد الحرب العالمية الثانية رد فعل على الأيديولوجيات الشمولية القاسية والمدمرة من فاشية ونازية وشيوعية بعد ذلك، وقد سبقها بسنوات ظهور حركات سياسية واجتماعية تحمل الاسم نفسه وفرت لها خبرات واسعة، لذا فقد قدمت نفسها باعتبارها أحزاباً إصلاحية ووسطية، صحيح لها طابع محافظ في ما يتعلق ببعض الجوانب الأخلاقية العامة، ولكنها ليست دينية بالمعنى التقليدي، إذ ليس من ضمن أهدافها إقامة «الدولة المسيحية» على غرار الدولة أو«الخلافة الإسلامية»، ولا تسعى لتغيير طبيعة وهوية الدولة والمجتمع وفقاً لأجندتها.

ولا تقوى أصلاً على المساس بالدولة القومية الحديثة المتجذرة في أوروبا ولا بدساتيرها العلمانية، ولا بالحقوق والحريات الفردية كما تعرفها الثقافة الغربية، التي اكتسبتها بعد ثورات فكرية كبرى بدأت بوثيقة «الماغناكارتا» في إنجلترا إلى مبادئ الثورة الفرنسية وإعلان الاستقلال الأميركي وغيرها من مواثيق حقوقية جعلت لمثل هذه الأحزاب سقفاً لا تتخطاه في حركتها السياسية أو الاجتماعية مثلما لا تستطيع إجبار الأفراد على انتهاج سلوك معين على غير إرادتهم، أو ممارسة أنواع من التمييز ضد المرأة أو الأقليات ويكفى أن رئيسة واحد من أكبر تلك الأحزاب في ألمانيا هي المستشارة إنجيلا ميريكل.

السياق الحضاري الغربي الذي ولدت في ظله الأحزاب الديمقراطية المسيحية، وهو ما جعلها مختلفة بل شديدة الاختلاف عن الأحزاب الإسلامية في عالمنا المعاصر اليوم، ففي الحالة الأولى تصل هذه الأحزاب إلى السلطة وتخرج منها، تشكل الحكومات أو تشارك في ائتلافاتها، تحصل على الأغلبية في البرلمانات أو تتحالف مع غيرها من الكتل البرلمانية ولا تغيير جذري يحدث.

لا انقلاب على طبيعة الدولة ولا دستورها ولا حتى تشريعاتها القانونية العامة، بل تضطر في كثير من الأوقات لتقديم تنازلات حتى وإن اختلفت مع قناعاتها الفكرية خاصة في ما يتعلق بتنظيم أحوال الأسرة أو ما يسمى الأحوال الشخصية عندنا، ويمكن مراجعة التشريعات التي صدرت على مدار أعوام في إيطاليا أو ألمانيا أو غيرها من الدول التي تلعب فيها الأحزاب المسيحية دوراً محورياً في الحياة السياسية للتأكيد على هذا المعنى.

ولكى تكتمل الصورة فهناك قضية أخرى تستحق المناقشة في ما يتعلق بالوظيفة السياسية للأحزاب الإسلامية، حيث تقول إن وجود هذه الأحزاب قد يؤدي تلقائياً إلى احتواء جماعات العنف من ذات المرجعية، وهو قول مردود عليه من واقع ما تشهده المنطقة الذي يشير إلى نتيجة معاكسة لهذه الفرضية.

إذ تم السماح بقيام مثل هذه الأحزاب في أغلب الدول من لبنان والعراق إلى مصر وتونس وليبيا واليمن والكويت وغيرها ولم يتغير المشهد بل ازداد التطرف والقتل والتكفير والتدمير، ولم تنقطع الفتاوى التي تبرر مثل هذه الأعمال غير الإنسانية وشديدة البدائية، فماذا فعلت الأحزاب المصنفة بالإسلامية؟ لا شيء يذكر.

وبالمنطق نفسه كان من المنتظر أن تبادر تلك الأحزاب بالتطوير والإصلاح على المستوى الفكري، وفى التراث الإسلامي ما يمكن أن يعزز من هذه المساعي إذا بدأت، فالفكر الإسلامي شهد لحظات ازدهار في القرون الماضية، ولكن هذا الملف بدوره يبدو مغلقاً إذ لم يعد باب الاجتهاد مفتوحاً .

وربما ضاعت جهود الإصلاحيين الأوائل لصالح أصولية جامدة تدور حول تأويلات ومدارس فقهية محدودة يتصدرها فكر ابن تيمية والمودودي وسيد قطب وحسن البنا وهي المدارس التي تعتمد عليها أغلب الحركات والجماعات السياسية الإسلامية بما فيها الأكثر عنفاً وتطرفاً مثل «داعش»، ومن قبلها تنظيم القاعدة.

 

Email