بيروت بغداد .. الجواهري وفيروز والماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين سُئل الجواهري لماذا يلفظ كلمة عراق بضم العين قال: يعز علي كسر عين العراق. وحين كان لبنان يتعرض لحريق سياسي كان صوت فيروز يطفئه ويشعل اللبنانيون النارجيلة في الملاجئ ويمارسون الحياة بكل ما أوتي الموت من .. موت.

وعلى مدى التاريخ ظلت بغداد أقوى من الغزاة وبيروت تغسل شعرها في البحر مما يعلق بها من قذارة محلية وإقليمية ودولية، تنفض عن ثوبها المطرز بخيوط الشمس غبار الحروب وتحاصر بالحب قلاع أمراء الحرب. وبغداد التي بيعت في المزاد ذات احتلال لم تسكت على الضيم..

وكانت ترى الفاسدين يبيعون النفط والعطر والكرامة لأعداء العراق. اليوم طفح الكيل باللبنانيين عندما طفحت قاذورات الفاسدين والطائفيين والمرتبطين بمصالحهم الذاتية وبالخارج في شوارع بيروت وخرج اللبنانيون عن صمتهم وصرخوا في وجه هؤلاء «طلعت ريحتكم». وبالتزامن خرج العراقيون في بغداد يصيحون «فاسدين ما نريد، لا طائفية ولا عنصرية كلنا عراقيين».

العنوان الرئيسي لانتفاضتي بيروت وبغداد، لا للفساد، الفساد بكل أطيافه، الطائفية والمالية والحزبية، لا للتيارات التي تجري عكس تيار الوطن الذي هو للجميع دون استثناء إلا استثناء الخونة والعملاء.

الوطن حق للمواطن الحر الشريف لا لمصاصي دماء المواطنين. هي انتفاضة شعبية عفوية، بلا قيادة أو تنظيم، شأنها في ذلك شأن مختلف ثورات الربيع العربي، اندلعت ضد الطائفية وأمراء الحروب والمذاهب وعائلات الإقطاع السياسي، لتعيد الاعتبار لمفهوم دولة المواطنة المدنية الديمقراطية، بعيداً عن المحاصصة والكوتات، وتقاسم السلطة والثورة بين فئة محدودة من المتنفذين..

وهي إعلان صريح بأن الطائفة والمذهب، ليسا بديلاً عن الدولة، وأن المواطنة ستظل غير مكتملة، طالما ظلت متبوعة بلون ديني أو مذهبي معين، وأنها قد تكون بقرة حلوب للمتنفذين وحدهم، وعلى حساب الأغلبية الكاسحة من أبناء الطائفة وبناتها، الذين يعتصرهم شظف العيش وشح الموارد ونقص الخدمات.

ولكن كما حدث في «انتفاضات» تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا ثمة من يسارع لاختطاف براءة الناس ويسرق صرخاتهم ليعيد خلط الأوراق ويدس سم المصالح الحزبية والأنظمة الفاسدة في عسل الفقراء والمحرومين من الخبز والحرية والكرامة.

إن أولئك الذين جعلوا لبنان يعيش فراغاً سياسياً قاتلاً ومنعوا انتخاب رئيس للجمهورية خدمة لمصالحهم كانوا أول من أرسلوا عناصرهم المسلحة لتطلق النار على المحتجين وعلى قوى الأمن لتخلط حابل الحق بنابل باطلهم وليبقوا هم أبطال كل مرحلة فيما لبنان يختنق بالنفايات والنكايات. لقد خرج ألوف الشبان والصبايا من كل الطوائف، وضد الطائفية التي عجزت عن رفع أكداس القمامة من الشوارع والأزقة..

وأدخلت البلاد والعباد في نفق لا ضوء في نهايته، عنوانه نقص الخدمات والثمرات... كل متظاهر كان يدرك، أن جيوب أمراء الحرب والطوائف قد انتفخت بأكثر مما ينبغي، بالمال المُحصّل باسم المذهب والطائفة والقبيلة، أما هم، فليس لهم سوى شظف العيش ونقص الخدمات والمضي في رحلة البحث عن الهجرة خارج رحم الوطن.

لقد تعلم اللبنانيون الدرس الحراكي وقطعوا الطريق على المخربين والمتربصين بأهدافهم النبيلة بالقضاء على عصر الميليشيات والطائفية. فالبيوتات السياسية تتوارث المناصب والمواقع والثروات، كابراً عن كابر ... هذا أمين الجميل الذي ورث الزعامة عن جده وأبيه وشقيقه، يورثها إلى نجله سامي، وتيمور ينتظر تنحي والده وليد، لتسلم راية طائفة الموحدين من بني معروف التي رفعها «أبو وليد» ...

وطوني سليمان، ابن طوني سليمان فرنجية، يستعد لاستلام موقعه ومقعده، فيما راية التيار الوطني الحر، تنعقد بعد ميشيل عون إلى صهره بعد أن انسحب زوج ابنته من المنافسة، أما عن الحريرية السياسية فحدث ولا حرج، وكذا الحال بالنسبة لبقية البيوتات السياسية من مختلف الطوائف والمذاهب والأقوام، أما بقية اللبنانيين، أو بالأحرى كل اللبنانيين فإنهم متروكون للهجرة وانسداد الآفاق ونقص الخدمات وتآكل الأجور وارتفاع قمم جبال النفايات.

في العراق، تتربع عوائل الإقطاع السياسي السني والشيعي والكردي على رأس هرم السلطة والثورة، وكل زعيم من هؤلاء في حزبه وجماعته وبين أتباعه، مشروع ديكتاتور، لا يقبل بأقل من «الولاية المفتوحة». قد لا تنتهي هذه الاحتجاجات بما تشتهي أشرعة سفن المواطنين، وقد ينجح أمراء الطوائف في احتوائهم أو الانقضاض عليهم أو تفريغ احتجاجاتهم من مضامينها، لكن ما يجري يؤكد أن الشارع العربي ما زال لاعباً مهماً، يجب أن يُحسب له ألف حساب.

ونحن نرفع أيدينا تحية للمنتفضين نضع الثانية على قلوبنا خشية أن يتصدى المنتفعون لإرادة الشعوب ويتصدع العراق ويذهب لبنان فرق حساب في الخارطة العربية التي يجري إعدادها على طاولة مصالح الدول الكبرى!

Email