هل الديمقراطية في أفول؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرأت مؤخراً كتابين مهمين وثيقي الصلة أحدهما بالآخر، وأعتقد أن موضوعهما يهم القارئ العربي. أحد الكتابين من تأليف طارق علي، ذلك الكاتب والناشط السياسي الفذ، وهو بريطاني الجنسية من أصل باكستاني. سمعت اسمه لأول مرة في سنة 1968، عندما قامت تلك الثورة الشهيرة في فرنسا وعرفت باسم «ثورة الطلاب»، ثم ظهر له الكثير من الكتب والروايات.

يشرح في كتابه ما حدث للأحزاب اليسارية في الدول الغربية، وما أصابها من ضعف وذبول، فكرياً وعلمياً، حتى أصبحت تنتمي أكثر فأكثر، لا لليسار ولا لليمين بل إلى الوسط، ولكن حتى هذا الوسط أصبح يلعب في الحياة السياسية دوراً معيباً للغاية، إذ تخلى عن مسؤوليته التقليدية في الدفاع عن حقوق الفقراء أو الضعفاء، ومال أكثر فأكثر إلى خدمة سياسات يمنية، بل ومتطرفة في بعدها عن مصالح الفقراء، ومن ثم استحق أن يوصف «بالوسط المتطرف».

يقول طارق علي، إن هذه الظاهرة عامة، تنطبق على بريطانيا، التي كانت سياساتها في عهد تونى بلير «العمالي»، مجرد امتداد لسياسات تاتشر «المحافظة»، كما تنطبق على الولايات المتحدة التي أصبح من الصعب، مع مرور الوقت، التمييز فيها بين برنامجي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، كما زاد التشابه في فرنسا بين الاشتراكيين والمحافظين، وبين التحالفات المختلفة في ألمانيا، وبين يمين الوسط ويسار الوسط في الدول الإسكندنافية.. إلخ.

أما الحديث عن «الموجة الثالثة»، أي نمو تيار ثالث يتميز عن اليمين واليسار القديمين، فقد ظهر مع الزمن أنه سراب أو عمل دعائي أكثر منه وصفاً لتغير حقيقي. يذكر طارق علي أمثلة واقعية عدة لتشابه المواقف بين الأحزاب، سواء بين حزب معارض وحزب حاكم، أو بين مواقفهما عندما تتولى الحكم بالفعل، وسواء بين سياساتها الداخلية أو الخارجية. إن مواقفها متشابهة من قضية التفاوت المتزايد في الثروة والدخل، وإزاء معاملة المهاجرين، إذ تتفق على اعتبارهم منافسين للعمال الوطنيين.

وطارق علي يجد تفسير هذه الظاهرة في انتصار الرأسمالية (أو على الأقل زيادة درجة تجبرها أو توحشها)، على الأخص بعد سقوط الحكومات الاشتراكية في دولة بعد أخرى في أواخر الثمانينيات.

يقول طارق علي إن أنصار الرأسمالية كانوا يدافعون عنها بنوع من الاستحياء، ويتجنبون استخدام اسمها الحقيقي (الرأسمالية)، فيستخدمون بدلا من ذلك وصفا ألطف هو (الديمقراطية)، أما الآن فقد زال الحياء، وأصبح الدفاع عن الرأسمالية وحرية السوق يجرى بجرأة، مقترناً بالادعاء بأنه لم يعد للنظام الرأسمالي بديل، وأن الداعين إلى نوع أو آخر من الاشتراكية، أو المدافعين عن القطاع العام، هم ( ديناصورات) محافظة.

الكتاب الآخر يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه طارق علي، إذ إن الأمر في نظر كاتبه لا يقتصر على أفول النظام الحزب، بل هو أفول الديمقراطية كلها. الكاتب إيرلندي متخصص في العلوم السياسية، بيتر مير، توفى قبل أن ينشر كتابه فى 2013، واسم الكتاب «أن تحكم في فراغ» (RulingTheVoid). يبدأ المؤلف كتابه بالقول إن السياسيين، سواء يثق فيهم الناس أو لا يثقون، أصبح تأثيرهم في حياة الناس أضعف بكثير مما كانوا في الماضي، وتدهورت مكانتهم في نظر الناس.

هذا التدهور نتج عن عوامل عدة منها انصراف الناس، أكثر فأكثر، عن السياسة، وتوجيه اهتمامهم بدلاً من ذلك إلى مشروعاتهم الخاصة، ومنها ما طرأ من تطورات على سلوك الأحزاب السياسية (كما شرحه كتاب طارق علي)، ومنها أيضاً خضوع الدولة لمؤثرات خارجية أو لقرارات تصدرها مؤسسات دولية، ما قلل من أهمية ما تتخذه الدولة بمفردها من قرارات.

يقدم الكتاب أرقاماً بالغة الدلالة، على الانخفاض الملحوظ في عدد المشتركين في الانتخابات العامة كنسبة من إجمالي من لهم حق التصويت، خلال الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة. وقد أظهروا أيضاً مثالاً واضحاً لتغيير ولائهم بالانتقال من التصويت لحزب إلى التصويت لحزب آخر. يلاحظ المؤلف أيضاً انخفاضاً ملحوظاً في عدد المنضمين لأي حزب من الأحزاب خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين، في 13 دولة من أعرق الدول الأوروبية في الديمقراطية.

ويستخلص من ذلك أن السياسة بالمعنى المعروف قد تحولت إلى نشاط «يتفرج الناس عليه». يعترف المؤلف بأن معظم دول العالم اليوم يمكن أن توصف بالديمقراطية، ولكن أي ديمقراطية هذه بالضبط؟ فقد أصبح من اللازم أكثر من أي وقت مضى إعادة تعريف ما نقصده «بالديمقراطية»، بعد كل هذه التغيرات، التي طرأت على موقف الناس من السياسة، موقفهم من حكوماتهم، وموقف الحكومات من الناس، وتضاؤل سلطة الدولة نفسها.

Email