دموع ريـــــــــــــــــم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الضجة التي أحدثها حوار أنجيلا ميركل مع الفتاة الفلسطينية في مدرسة ألمانية، أثارت قضايا مختلفة ليس من بينها القضية الرئيسة! فالمستشارة الألمانية كانت في زيارة لمدرسة في شمالي ألمانيا كانت ضمن طالباتها لاجئة فلسطينية طلبت الكلمة، وحكت لميركل بلغة ألمانية سليمة عن الأزمة التي تعيشها، فهى لاجئة فلسطينية سافرت مع أسرتها من مخيم للاجئين الفلسطينيين بلبنان إلى ألمانيا، وبعد أن عاشت وتعلمت هناك لمدة أربع سنوات، صارت تواجه احتمال الترحيل مع أسرتها.

فاجأ السؤال أنجيلا ميركل فكانت إجابتها على الفتاة ريم أن «السياسة أحياناً ما تكون قاسية»، وأضافت «إنك أمامي الآن وأنت لطيفة للغاية لكنك تعلمين أن هناك الآلاف والآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات في لبنان وإذا قلنا إن بإمكانكم جميعاً أن تأتوا إلى هنا، وأن تأتوا جميعاً من أفريقيا، فإننا لن يمكننا التعامل مع ذلك»، ثم توقفت ميركل فجأة عن الحديث ثم قالت «يا إلهي»، لأنها لاحظت دموع ريم تنهمر غزيرة، فتوجهت نحوها وربتت على كتفها قائلة: كنت رائعة.

أعلم أن الأمر صعب بالنسبة لك ولكنك شرحت بوضوح شديد الصعوبات التي يجد الكثيرون أنفسهم فيها.

وبمجرد انتهاء الحدث وخروج ميركل من المدرسة كان الفيديو الذى سجل الواقعة يلف العالم، وتعرضت ميركل لانتقادات كثيرة، منها أنها استخدمت لغة جافة وخشبية في التعامل مع طفلة صغيرة، وأنها لا تعرف كيف تعامل الأطفال في مثل سنها.

ومنها أن ميركل «بلا قلب»، وتتمتع «ببرودة الثلج».

وقد ذهب البعض إلى الربط بين ما فعلته ميركل مع ريم وبين القسوة التي تتعامل بها ألمانيا مع اليونان. وقد دفع ذلك إلى سجال بين الكتاب والمعلقين الذين انتقدوا ميركل وبين من انتفضوا يدافعون عنها قائلين، إن ميركل كانت دقيقة في ما قالت للفتاة، وإنه لم يكن يجوز لها أن تكذب عليها أو تقول لها أمام الكاميرات شيئاً يختلف عن السياسة الرسمية لألمانيا، ولا كان مطلوباً منها أيضاً أن تغير سياسة بلادها فجأة على الهواء مباشرة.

وكان من بين المدافعين عن ميركل من اعتبر أن حملة الانتقادات التي تعرضت لها كانت تحمل طابعاً ذكورياً «يتوقع من الزعيمات أن يكن أكثر تعاطفاً وحناناً»، وعلقت كاتبة في الجارديان بقولها، إن السياسة «تختلف عن ديزنى لاند!».

الطريف في الأمر أن المسؤولين الألمان أعلنوا لاحقاً أن ريم سوف يسمح لها بالبقاء في ألمانيا ولن يتم ترحيلها. وقالت وزيرة الدولة للهجرة واللاجئين، «لا أعرف شيئاً عن ظروف الفتاة ولكنها تتحدث الألمانية بطلاقة والواضح أنها عاشت هنا مدة طويلة ولهذا بالضبط غيرنا القانون حتى يسمح ببقاء الشاب المندمج بوضوح في المجتمع فيحصل على تصريح إقامة»، بينما قال المتحدث باسم عمدة المدينة التي تعيش فيها الفتاة إن لا نية لديه لترحيل الفتاة أو أسرتها. ووجه الطرافة في ذلك التطور أن ريم هي نفسها ذات الفتاة التي سمعتها ميركل هي الأخرى تتحدث الألمانية بطلاقة، ومع ذلك هي لم تذكر في ردها إطلاقاً حكاية تغير القانون ليسمح لأمثال ريم بالبقاء وإنما انصب تعليقها على «الآلاف والآلاف» من اللاجئين لألمانيا.

ومثلها مثل ميركل فإن الوزيرة لا تعرف هي الأخرى شيئاً عن ظروف ريم الخاصة ولا عن عائلتها. ومع ذلك، وجدت أن أمثالها «يستحقون البقاء»، الأمر الذي يعنى أن بقاء ريم لا علاقة له بالقوانين، وإنما هو ناتج عن الضجة المثارة بعد تصريحات ميركل.

غير أن أحداً من الذين علقوا منتقدين ميركل أو مدافعين عنها لم يتطرق إلى القضايا الجادة في الموضوع، ففي حوار الهجرة ذاته، ورغم الحديث عن الأعداد الهائلة من المهاجرين والعنف الذي يواجهونه غاب عن السجال أن قوة العمل في ألمانيا في حاجة للمهاجرين لتعويض الذين يخرجون إلى التقاعد. فالشعب الألماني من الشعوب التي صارت فيها نسبة المحالين للتقاعد أعلى من الشباب الذين يدخلون سوق العمل. وتنذر الإحصاءات بأن قوة العمل الألمانية ستنخفض بمقدار 20 مليون تقريباً خلال الثلاثين عاماً المقبلة، بما يعنى أن البلاد في حاجة لتعويض ذلك الفقد، عبر قبول المزيد من المهاجرين في سن العمل.

لكن الأخطر من ذلك كله أن القضية الفلسطينية غابت تماماً عن السجال الذي دار، فلم تقع عيني على من أبدى استغرابه مثلاً من أن تتحدث ميركل عن «مخيمات اللاجئين» من دون أن تذكر القضية الفلسطينية نفسها بكلمة.

ولا تساءل أحد إذا كانت السياسة «صعبة»، كما قالت ميركل للفتاة فلماذا كان مستحيلاً أن تتحدث ميركل في السياسة «الصعبة» فعلاً، فتناقش وضع ريم لتقول لها مثلاً إن جهوداً دولية مضاعفة لا بد أن تبذل من أجل حل القضية الفلسطينية، ناهيك عن قضية اللاجئين الفلسطينيين. ولا أشك في أن القارئ الكريم يعرف الإجابة عن سؤالي هذا، لكن أليست تلك الإجابة نفسها هي أهم المسكوت عنه في الحوار الذي دار بين المستشارة الألمانية والفتاة ريم؟!

Email