أهمية الفئات الوسطى في المجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعود تنوع الفئات التي تكوّن المجتمع إلى مرحلة مبكرة من تقسيم العمل الاجتماعي، واستمر هذا التنوع إلى يومنا هذا، وحتى التجربة السوفييتية الاشتراكية لم تستطع أن تلغيه.

ففي كل المجتمعات هناك طبقات غنية وطبقات فقيرة، وفئات متوسطة، وفئات هامشية، وطبقات الشغيلة، الخ. من شأن الإنصاف أن يوفر لأفراد المجتمع إحساساً بالكرامة الإنسانية لدى الجميع. والإنصاف لا يلغي التفاوت ولكنه يحقق أهم متطلبات القدرة على العيش. فالمجتمع لا يستطيع البقاء متوازناً دون اشتراك جميع فئاته وطبقاته في الحفاظ على بنيته.

غير إن هناك فئات على غاية كبيرة من الأهمية التاريخية وتشكل معياراً مهماً لقياس قوة المجتمع وضعفه ألا وهي الفئات الوسطى، والتي تسمى قلب المجتمع. فهي التي وقفت وراء التقدم العلمي والمعرفي والاجتماعي، بل وهي التي أنجزت التحولات الثورية في أوروبا وبلاد كثيرة.

والفئات الوسطى هي التي تتكون من الأكاديميين وأساتذة الجامعة والمدرسين والمعلمين والأطباء والمحامين والقضاة والمهندسين والموظفين في أجهزة الدولة والقطاع الخاص، وصغار المنتجين والحرفيين والمثقفين بعامة، بما فيهم الكتاب والمبدعين بكل تنوعاتهم. هذه الفئات هي مركز إدارة المجتمع وعقله وهل المنتجة لاستقراره، دون الإقلال من شأن الفئات والطبقات الأخرى.

فهي من جهة لا تعاني عوز الفئات الهامشية ولا ثراء الطبقات الغنية. واشتغالها بالعلم والمعرفة والقضاء ومؤسسات الدولة والصحافة والصحة والبناء الخ يجعلها حاضرة في كل مجالات الحياة المجتمعية.

وحضورها هذا يجعلها قوة فاعلة وخطيرة فيما لو أصابها وهن ما.

وهي أكثر الفئات الاجتماعية اشتراكاً في العمل السياسي، وأقدرها على اتخاذ المواقف السياسية المؤثرة على حاضر المجتمع ومستقبله. ولهذا فإن احتفاظ هذه الفئات بحيويتها وفاعليتها وتوازنها ووظيفتها في توفير سبل الحياة المادية والروحية رهن باحتفاظها بمستوى نمط حياتها وطريقة عيشها المستقرة والمستقلة بعيداً عن العوز المادي. أما إذا بدأت هذه الفئات بالانهيار المادي وتحطم مستوى عيشها فإنها تتحول إلى قوة سلبية بل ومدمرة أحياناً.

فهي الأقدر على التنظيم والتفكير والتزييف والفساد وصناعة الشعارات الخ، وبالتالي هي الأقدر على جر الفئات الهامشية خلفها. والمتأمل في حال الفئات الوسطى في دول الربيع العربي سيجد أن الفئات الوسطى قد دُمرت تقريباً.

وهذا التدمير قد جعلها تنحدر إلى مستوى الفئات الفقيرة والفئات الهامشية، وهي بهذا وجدت نفسها في وضعين، وضع محاولة تعويض عوزها عبر الفساد والرشوة وأشكال أخرى من الأعمال التي لا تشكل جزءاً من طبيعتها، فالفساد والرشوة يدمر العلاقات الطبيعية بين مؤسسات الدولة والمواطن ويلقي على المواطن أعباء لا يستطيع تحملها، فضلاً عن ذلك فإن اشتغال الفئات الوسطى بأعمال ليست من طبيعة أعمالها يولد لديها حقداً داخلياً يتنامى مع الأيام فتسعى للتعبير عن امتعاضها وحقدها وتمردها بأشكال أيديولوجية متعددة.

وإذا أضفنا إلى هذه الحال قمع السلطة لها ومراقبتها ومعاقبتها وخلق ولاءات لها عند البعض، أدركنا بأن تهميش الفئات الوسطى، وإشاعة السلوك المرتبط بالرشوة والفساد والبحث عن البديل قد قاد ويقود إلى تدمير المجتمع. بكلمة أخرى إن اجتماع إفقار الفئات الوسطى وقمعها وإشاعة الفساد والذي يلقي بظله على الشغيلة مع طبيعة الدولة التسلطية، سيقود حتماً إلى الدمار لا محالة.

والحق أنه إذا ضعف قلب المجتمع أو مات فإن الجسد كله سيعلن عن عجزه، وللعجز أشكال وأحوال.

Email