الواردون على الجنّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تُعرَف الرجال بمواقفها كما تُعرَف بنظرتها لنفسها و بالهمّ الذي تحمله و المبدأ الذي تدافع عنه و تنافح ، و الرجال حقاً تتحدّث نيابة عنها أفعالها و وقفاتها لا عنتريات المنابر و ناريّات الخُطَب ، فكبير الهمّة لا يقبل بسفاسف الأمور و لا يرهق فيها لا خيله و لا رجله ، و وحده الصغير من تَكْبُر عليه الصغائر و تضيع أيامه و هو معها بين شد و جذب ، فلا لوجوده من أثر و لا لغيابه من أهميةٍ تُفتَقَد.

هناك غيابٌ يخلق كل الحضور ، و هناك رحيلٌ تزهر بطيب ترحاله الأرض الجدباء ، و هناك ممات تحيا به الحياة و يخضر عُودها ، فما رحل زايد رحمه الله تعالى إلا و قد طاب الغرس و أثمر ، و ما ترجّل عن جواده إلا و قد وثق أنّ الراية لها من هو جديرٌ بحملها ، و ما غمضت عيناه الطاهرتان إلا و قد أحسن التربية و أجاد في تنشئته لأبناء شعبه ، فما أمر بشيء إلا و كان السبّاق لفعله ، و ما وجّه لأمر إلا و كان أول من يأخذ به ، فمضت السنون بعده و كل يومٍ منها يفترّ ثغره باسماً لطيب فعل أبناء زايد و كأنّ كل مساءٍ يطوي صحائفه ينادي : ألا طابَ الغَرْس أبا خليفة !

هذه الأيام يترجم أبناء زايد أصالة جوهرهم و طيب منشئهم، فدماؤهم الطاهرة تضمّخ تراب بلاد العرب كنوافح المسك ، لم يهرولوا للعبث بمقدرات الأبرياء و حياتهم و بقيّة الأحلام التي يملكون ، و لم يُسارعوا لوأد مستقبل الأوطان برهاناتٍ سوداء و أجنداتٍ طائفيةٍ بغيضة ، و لم تُظلِّل رؤوسهم راياتٍ مارقةٍ و بنادق مأجورة و نفوس حاقدة موتورة ، بل لم تَزِلَّ لهم قَدَم إلا تحت لواء ولي الأمر و هو شرط الجهاد الرئيسي الذي يراوغ عنه مارقو العصابات و تُجّار الدم ، و لم يذهبوا بقلوب شُجاعة إلا لنُصرة الشعوب الشقيقة التي أعمل فيها الغادرون قتلاً و تدميراً ، فكانوا بعد الله خيرَ النصير و نِعْمَ السند .

لم تفتّ في عضدهم تخرصات أفاقي القنوات التلفزيونية المأجورة ، و لم يلتفتوا لكُتّاب الصحافة الصفراء من عبدة الدولار ، و لم تهزّ رباطة جأشهم تلك الحملة المسعورة على شبكات التواصل الاجتماعي ضد بلادهم ممن راهنوا على الظلام فدَحَرهم الضوء و بيّتوا خبيئة السوء فعادت خبيئتهم عليهم وبالاً و نكالاً ، و أسقط الله عنهم ذلك القناع الزائف الذي أرادوا من خلاله استدرار تعاطف الناس و كسب ودّهم ، فكان ما حدث تصديقاً لقول المولى سبحانه : «فأمّا الزبدُ فيذهب جُفاءً و أمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» ، و هو ما جُنَّ به جنونهم ، فجنّدوا كلّ من لديهم من شياطين الإنس للنيل من الإمارات التي كانت عصيّة على ترّهات مخططاتهم و غُصّةً في حلق تدبيرهم الطائفي الضيّق ، فترك لهم أبناء زايد ميادين السوء و منابر الزيف ، و سطّروا بأفعالهم ملاحم فخر للعرب و الاسلام ، لم تكن بدايتها نصرة أحبتنا في البحرين من مخططات سَدَنة الظلام ، و لم تكن تاليتها قصف أوكار عصابات الخوارج في بلاد الشام ، و لن تكون نهايتها دماءهم الزكية التي خضبت تلال اليمن الذي اغتالت سعادته عصابات الحوثيين و غَدَرات المخلوع علي صالح ، فحيثما احتاج العرب لنُصرةٍ شريفة نقيّة لا تطلب شيئاً في المقابل فإنّ الإمارات لها ، و أينما استغاث الأبرياء من خناجر الـمُرَّاق و النُزَّاق فإنّ أبناء زايد لا تتأخر بهم قدم و لا تفتّ حماستهم و إقدامهم تهديدات غادرٍ أو تلفيقات قلمٍ أجير.

أعرف أن وداع من نحب ليس بالأمر الهيّن ، و موت من ألفنا وجوده بيننا و تتردد نبرات صوته و ضحكاته في نواحي المكان ليس مما يمكن أن يُنسى ، و لكن هناك من يرحل عن هذه الدنيا دون أن يكترث له أحد ، و هناك من يرحل بعد أن يُسطّر اسمه و اسم عائلته و وطنه بأحرفٍ من نور ، كيف لا و هو قد حمل روحه على كفه نجدةً لضعيف و حمايةً لطفل و نصرةً لكهل و صوناً لعرض و حفظاً لأرض ، ثم يُكرمه الله تعالى بالشهادة التي تمناها خالد بن الوليد رضي الله عنه فلم يجدها فقال حُزناً على فراش موته : « ها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء» ، و الشهيد الذي غادَرَ هذه الدنيا ليس بميتٍ يُحسَب في عداد الأموات كما هو حال البقية ، بل هو حيٌّ يعيشُ حياةً برزخيَّة يعلمها الله تعالى وحده و ذلك لقوله سبحانه : ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).

كم هو مبعث فخرٍ أن يُقال : هذا ابن الشهيد و تلك والدة الشهيد و هذه قبيلة الشهيد ، بل يقال لبلده هذا وطن الشهداء ، فهكذا تسطّر الرجال اسماءها و هكذا لا يترجل الفارس عن جواده إلا بعد أن يضجّ بذكره الخافقان ، هكذا هي الهمم العالية لا النفوس المأفونة ، و هكذا هو الرجل لا الرويجل ، اللهم فاقبلهم إليك و ارفع قَدْرَهم لديك وسّع مُدخلهم و أكرم نُزُلَهم ، اللهم كما تركوا أهليهم نُصرةً لاخوانهم المستضعفين فكُن لهم خير آخذ ، و كما خرجوا جهاداً تحت لواء ولي أمرهم لا تحت لواءات عنصريةٍ أو طائفية فأدخلهم مستقر رحمتك و أسكنهم فردوسك الأعلى و اربط على قلوب أهليهم ، اللهم و اجعلهم الواردين على الجنة .

Email