نسمات رمضانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عجيب سره، وعليلة نسماته، زكية روائحه، ولطيفة أنفاسه، طيبة مجالسه، وصافية خطراته، عامرة لياليه، وفضيلة أيامه، ذلك هو شهر رمضان الذي كرمه الله على باقي الشهور. كيف لا، وهو الذي أنزل فيه الهدى، وكأني بالإنسانية قبله في تخبط، وأنزل فيه الفرقان، وكأني بالإنسانية قبله التبس عليها الحق بالباطل، والله تعالى يقول في محكم التنزيل «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ».

رغم مشقة الصيام والقيام، فإنك ترى الوجود من حولك جميلاً، لأن بداخلك جميلاً، تقرأ وجوه الناس وتتأمل أحوالهم التي لم تزداد إلا رقياً، لتشكر من وجب شكره، وتثني على من يستحق الثناء من الذين يقفون في تحت أشعة الشمس يؤدون واجبهم، وكأن لرمضان مظلة روحية تظلهم بظله، فلا الشمس أتعبت ولا النفوس وهنت، وآية ذلك والشاهد عليه، ما رأيته رأي العين من رجال شرطة عجمان، حين وقع لي حادث في طريقي إلى العمل، فقمت بما هو معتاد بالاتصال بشرطة المرور، وإذا بهم في دقائق قليلة تصل سيارة المرور (ساعد) إلى موقع الحادث، غير أن ما لفت انتباهي واستوقفني، هو أن رجل الشرطة جاء مبتسماً ابتسامة طيبة، وكأنه يقول بلسان الحال، هون عليك، ثم ألقى السلام، وقبل أن يبدأ في القيام بإجراءات إثبات الحادث، طلب بلطف شديد أن يجلس كل منا في سيارته بسبب حرارة الشمس، في حين بقي وحده تحت أشعة الشمس يكمل الإجراءات، محتفظاً بنفس الابتسامة وطيب المحيا، وما إن أنهى الإجراءات ودعنا بإلقاء السلام الذي بدأ به مهنئاً كلانا بقدوم شهر رمضان المبارك.

وعلى الرغم من أن هذا الموقف يتكرر عشرات المرات، إلا أن هذا الرجل، الذي تمنيت أن أعرف اسمه، هو فرد ضمن مؤسسة وطنية، يقوم رجالها بدور يستحق التقدير في ظروف دائماً غير عادية، كما يعبر عن سلوك مؤسسي مهني احترافي، يستحق التقدير والاحترام، وكل هؤلاء الرجال الذين يلتحفون حرارة شمس رمضان نهاراً، دون كلل أو ملل أو تثاقل، ثم تجدهم ليلاً في ساحات المساجد وعلى طرقاتها ييسرون لرواد المساجد أداء صلاة التراويح، فلهم منا التحية، ولهم من الله الأجر بإذنه.

صورة أخرى استوقفتني، من سائق التاكسي الذي نزل من سيارته رجل مسن، فلم يكتف بمهمته من القيام بتوصيله إلى وجهته، غير أنه لما رأى الرجل يتعثر في سيره إلى حيث يريد، نزل من سيارته وأخذ بيده، مصطحباً إياه، وساعده في الوصول إلى حيث يريد.

وهذا الذي أعاد إلى راكبه حقيبة تحوي آلاف الدولارات، رغم رقة حالة.

وذلك الرجل الذي توقف بسيارته على الرغم من أن الطريق أمامه خال، فيما يبدو لمن خلفه، فلما طال ذلك قليلاً، وعلت أصوات آلات التنبيه مطالبة إياه بفسح الطريق، فإذا بنا نكتشف أنه توقف إلى أن تمر من أمام سيارته هرة صغيرة، لم تستطع أن تسير بنفس قدرة أمها التي كانت تنظر إليه وكأنها ترجوه ألا يصيبها بأذى لقلة حيلتها وضعف بنيانها. وليس ببعيد عنه ذلك المشهد لشاب تجاوزت شفقته، ببركة هذا الشهر الكريم، الإنسان إلى الحيوان في هجير الشمس، فهدته نسمات شهر الصيام إلى تصميم إناء يتم ملؤه بالماء بطريقة آلية كلما نضبت منه بنفس أسلوب خزانات المياه، غير أنها تمكن الطيور وغيرها من الارتواء.

إنها نسمات شهر رمضان، التي تجعلنا نتأمل كثيراً من الصور التي تبعث في النفس اليقين، بأن الناس، كل الناس، مجبولون على حب الخير، إنها الفطرة الإنسانية، غير أن عجلة الحياة ورحاها التي لا تتوقف، قد تصيب القلوب ببعض الغبار المؤقت، الذي يخفى حقيقة الإنسان، فما إن تأتي نسائم شهر رمضان الكريم، حتى تكشف عن أصل الإنسان.

هذه الحالة التي تصيب الإنسان بحالة من التحول النفسي، الذي لا تفسير له، غير أنه سر شهر الصيام، الذي جعل من النفوس التي أصابتها الشحناء ليالي وأياماً، ولم يجدِ معهم جلسات الصلح أو التقريب، فما إن تغشاها الليلة الأولى من رمضان، حتى تشفى النفس من سقمها، وتذهب عنها الخصومة، وكأنها لم تكن، ويبحث كل عن الآخر طلباً للصفح والعفو، إنها قوة الدفع الربانية لشهر القرآن، وكأنها يد الرحمة التي تمسح القلوب، فتزيل عنها أدرانها وما علق بها من شوائب تشوش الرؤية وتعثر السلوك، إنها النفحات الربانية التي تجعل الإنسان قادراً على التغلب على شح النفس بالإيثار، حين يسعد بتقديم الإفطار للغير قبل نفسه، ويتغلب على التضجر باللين، وعلى الفظاظة بالرحمة.

Email