ثقافة «دَق الهَرَن»

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أنزل درجات السُلّم الموصل لطابق القبو في إحدى المكتبات المعروفة وأنا أسمع ضجيجاً عالياً لأصواتٍ شابّة، استبشرتُ خيراً بأن شبابنا أخيراً أصبحوا من الباحثين عن المعرفة، ولكن كان الزحام على «كاونتر» الموظف شبيهاً بتدافع الخليجيين على كشك الهوت دوغ بالهايدبارك في موسم الصيف، حيث الجميع يصرخ في ذات الوقت وكأنّك في سوق حراج، سمعتُ كلمة «بحث» كثيراً فقلت في نفسي لا بُد أنهم يريدون طباعة أبحاثهم الجامعية بطريقة احترافية وهذا سبب مجيئهم ومُبرّر ضجيجهم، دقائق وإذا بالصورة تتضح وأنا أسمع أحدهم يقول بغضب: «أنا من أسبوع مخبرنّك عن عنوان البحث اللي أباك تكتبه لي، ولين اليوم ما بديت بعدك!»، صعقتني الجملة، اقتربت أكثر منهم وإذا بالموضوع لا يعدو أن يكون «كُشكاً» لبيع الأبحاث الجاهزة للفاشلين حتى عن البحث في محرك جوجل، ابتعدت بحسرة عنهم بينما كانت سيدة عجوز تُعطي موبايلها للموظف وهي تقول: «رَمِّس البنت وبتخبرك شو تبا»!

أي واقع بئيسٍ أصبحنا نعيشه مع شباب اعتادوا ثقافة «دق هَرَن» وكل شيء سيصل لك، سيدق هرن فيأتيه عامل المحطة ليملأ خزان سيارته بالبنزين، يتقدّم قليلاً ويدق هرن ليخرج له موظف البقالة ويأتيه بما يريد، يذهب أكثر ويدق هرن ليخرج له عامل المطعم، وكذلك الحال بموظف المغسلة، ثم يتصل بالسائق ليطلب منه أخذ سيارته للفحص أو تجديد الرخصة، ثم يمر ليأتيه ببطاقة الضمان الصحي المـُجدّدة، وقِس على ذلك بقية الأمور، إذ نشأ الشاب على أن يجد طُرُقاً أقصر لكل شيء Short Cuts دون أن يُزعج ذلك سيادته أو يجعله يناضل ويكافح فعلاً للحصول على ما يريد حتى يعرف قيمة العمل ومعنى الاجتهاد ومذاق الانجاز بعد التعب من أجله.

يغتال «الـمُقتاتون» على حسابنا مستقبل بلادنا من أجل أن تمتلئ جيوبهم أكثر، ويتفنّنون في إغراء طلبة الجامعات باستعدادهم لعمل كل شيء نيابة عنهم، وتساعدهم جامعات الـ«رُبع كُم» والتي تُخرّج كل سنة أعداداً متزايدة من الطلبة الذين يخرجون منها كما دخلوا معرفياً ولكن بزيادة اكتساب خصلة جديدة غايةً في السوء مفادها «كل شيء له سعره»، والمصيبة أنّ أغلب هذه الجامعات والكليات حاصلة على معادلة لشهاداتها، وخرّيجوها يتقاطرون على المؤسسات الحكومية فقط لتقديم أوراقهم بحثاً عن وظائف لعلمهم أن حصولهم لوظيفة في القطاع الخاص بمثل هذه الشهادات الجوفاء هو من باب «عشم إبليس في الجنّة» لذلك تكون الغزوات موجهة لمؤسسات القطاع العام، والتي إن استقبلتهم فإن مستقبل أداء هذه المؤسسات ومستوى خدماتها التي تمس شرائح كبيرة من المجتمع المحلي ستكون كارثية مقارنة بتوجه القيادة العليا لجعل القطاع الحكومي في تنافسية عالية لا تقل عن المؤسسات الخاصة الرائدة.

الوضع لا يقبل التأجيل فهذه الجامعات تتكاثر كخلايا سرطانية ومثلها يتزايد ناسخو الأبحاث وباعة الشهادات العليا أيضاً، وكلما تأخرنا في سَن قانون لتجريم مثل هذه الممارسات التي تقوم على تسهيل الغش والخداع وتعميق شعور الدونية والسلبية وعدم القدرة على عمل شيء لدى الطالب استفحل الضرر وطال مستقبل بلادنا وقوّض من دعائم نهضتها، وكلما خَلَطنا الأمور وجعلنا قضية «معادلة الشهادة» هي محل القبول دون تصنيف لهذه الجامعات، والتي أضع فيها جامعات ذات قيمة اعتبارية عالية مع جامعات لا نعرف حتى في أي «صناعية» موجود «كُشكها» أو مبناها، كان ذلك بمثابة توجيه ضمني غير مقصود لفئات الشباب للذهاب لهذه الجامعات الهزيلة مادامت الشهادة مُعادلة و«أمورها طيبة» والنتيجة ستكون مخرجات جامعية لا تستطيع كتابة سطر واحد وترى أحدهم يحاول «التفلسف» في تويتر ولا زال يكتب «هاذا» و«لاكن»!

التأخر في الاعتراف بوجود هذه المشكلة سيدخلنا ذات النفق الذي دخلته دولة شقيقة عندما صحت لتجد شخصاً واحداً قد باع أكثر من 16 ألف شهادة مزورة، الدكتوراه مثلاً يتم بيعها بخمسين ألف درهم «يا بلاش» وانتهاء بشهادات التوفل لاجتياز اللغة الانجليزية «تخيّلوا لأي مستوى وصلوا» بمبلغ ثلاثة آلاف فما بالك بغيره وكم سيكون عددهم وكم هم المشترون ممن يُصدّعك للتأكيد على وضع حرف (د) أمام اسمه حتى لو ذهب لمراجعة طبيب؟ بينما خرجت حملات تفتيش عشوائية بفاجعة وجود أكثر من 12 ألف مهندس «مزوَّر» وقرابة 1500 طبيب ومساعد طبيب بشهادات مشتراة والجميع يعمل في القطاعين الأهلي والخاص وبعضهم يعمل منذ ثلاثين سنة ما يعطيك دلالة على مقدار الضرر الذي حدث لصحة البشر وما أشرفوا عليه من مشاريع وإنشاءات!

هذه البلاد تعب عليها أجدادنا ومؤسسوها ويتعب عليها قادتها وأبناؤها المخلصون حالياً، ونرى كل يوم مبادرات حكومتنا الرشيدة ومشاريعها وتنوّع أهدافها وديمومة مراجعة وتحسين خطط التنمية، ونشاهد كما يشاهد العالم حولنا هذه الفورة الدائبة للحاق بدول النخبة وإعلاء شأن الدولة ومجتمعها في سُلّم المدنية في نَسَقٍ علمي رصين وفكر استراتيجي طموح لا تُقيّده النمطيات ولا يكتفي بما تم من إنجازات، ويُبهرنا كما يُبهر غيرنا ممن حولنا هذا الرفع الدائم لسقف الطموحات والتي لم تبدأ بالحكومة الذكية ولن تنتهي برحلة مسبار الأمل وارتياد مجاهل الفضاء وكوكبه الأحمر، وعندما يأخذنا الفخر بما يتم وما نرى تُنغِّص علينا ذلك بعض الجماجم الفارغة التي لا ترى أبعد من مصالحها ولا تعرف أمراً أهم لديها من جُيوبها ولكنها تعرف من أين تؤكل الكتف ومِن مَن تحديداً، نعم يا سادة، من فئات «دق هرن»!

Email