بين الحَيَاةِ والمَوْت

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخلتها لزيارة  أحد أقاربي، الثمانيني المصاب منذ سنوات بمرض الزهايمر، المرض الذي حرمه من كل شيء حوله، وحرم مَنْ حولَه منه، إنها أقسى حالات الغياب التي قد تواجهنا في علاقاتنا مع أحبائنا. دخلت غرفة العناية المركزة، والأصح أنني تسللت إليها في أوقات الليل المتأخر حيث تُمنَع الزيارة. كان الصمت في المكان رهيباً ومخيفاً، لا حركة آدمية سوى أشباه أنفاس، وأنصاف دقات قلوب، وعدادات الأجهزة، وصوت قطرات السائل المغذي وكأنها فقاعات هواء تنفجر، وصرصرة خافتة لبعض الحشرات في الحديقة المجاورة تتنادى من أجل الحياة.

 وسط هذه العتمة أبحث عن قريبي المريض، وقد أصابني ارتباك شديد أنني أخالف مواعيد الزيارة الصارمة، وشعرت برعب هذا الصمت الرهيب رغم أنه مليء بالبشر شبه الأحياء وشبه الأموات بملاءاتهم البيضاء. حالة متناقضة بين العدم والوجود تعززت لدي إذ تأكدت أنني أنا الميّت من نوع خاص، فأنا المرتعب أكثر من هؤلاء الذين يواجهون الموت جماعة بنوم عميق.

لا يتحركون، مثبتون بثقلهم على أسرتهم وبمجسّات أجهزة الحياة، وشبكة من الدعامات تتشابه في أدائها، فإما محاليل لرفع الضغط ومسكنات للألم، والتغذية البديلة بمضادات حيوية، أو لخفض السكر أو رفعه. وعبوات أسفل الأسرّة تتدلى من حلوقهم وجوانبهم لامتصاص ما تبقى من عُصارات الحياة في أعضائهم. وما زلت أدب دبيباً خفيفاً على أرض الغرفة، فأنا الوحيد هنا المتحايل على الموت والحياة معاً.

وخالني شعور أن هؤلاء المرضى سيطردونني ويطاردونني لو أتيحت لهم القوة لذلك، ومع غياب ملامح الحياة الطبيعية حولي، كان ألمي كبيرا وعميقاً إذ حاصرني هذا الغامض بين الحياة والموت في حين أن من حولي لا يدركونه رغم أنهم دليلي إلى ذلك.

 ترددت للحظة، وقلت يجب أن أغادر غرفة العناية المركزة فوراً مُتعذّراً بأنني مخالف للمواعيد، وقد اقتربت من الموت أكثر عندما بحثت في أول سرير ولم أجد المريض، فيبدو أن أهله قد شيّعوه يوم أمس أو قبله. الكل هنا سواسية ومتشابهون مستسلمون وهادئون، بلا حول ولا قوّة،  فهذا بعضلة قلبه التي تعمل 10% من قوتها الطبيعية، وذلك برئتيه الضعيفتين المثقلتين بأعباء أنفاسه المتقطعة، وآخر بكليَتِه الوحيدة التي خذلته قبل أوانه وأوانها.

 أما أنا فأعترف.. فالموت يخيفني، وأنكره بأمل في ما تبقى من العمر متناسياً علامات الكبر والخلايا التي هرمت. ولكن المرضى في أسرّتهم هم الغائبون عن الحياة، وأنا وحيد بينهم على قدمي غائب عن الموت. وتمنيت أن يطلّ  عليّ الطبيب أو المُمرض المناوب ليزجرني أويطردني، فينهي هذه المنازلة بيني وبين الموت الشّاخِص حولي.

كل ما تمنيته آدمي ينطق ويتحدث لي، ويشعرني أنني حيّ وأن غداً سيأتي.  نحو 20 سريراً طبيّاً تنتشر في هذه الغرفة الواسعة وقد ضاقت بالمرضى، أزيحت الستائر الفاصلة بينها، وبدت السكك الحاملة للستائر وكأنها هياكل لشيء ما غامض طَوْر الاكتمال، أسرة تعلوها أجهزة إنذار الموت وأمل ضعيف بالحياة، سرير واحدٌ في الأيسر لمدخل الغرفة، يشغله مريض من دون أجهزة أو دعائم.

مُهدئاً نفسي المرتجفة، اقتربت من السرير، فتحرك فيه طفل في السابعة من عمره تقريباً. اقتربت من السرير الذي تناثرت عليه بقع الضوء من النوافذ. ولمَعَت عينان لم أرَ مثل بريقهما قط، كانتا أشبه بطوق النجاة لي، فثمة حياة ومستيقظ في هذا المكان. نظرت في عينيه فحركهما باتجاهي..

 وبدا وكأنه يكابد العناء من أجل تثبيتهما، فتهربان منه، ويعيدهما بصعوبة نحوي، وبدأ يحرك جسده الضئيل، ويتكور، ويحرك أطرافه في كل الاتجاهات، وكأنه غريقٌ  يطلب النجدة. بث في  نفسي القوة  وخفف عني رهابة المكان، ولأنني سارق الوقت ومخالف لتعليمات الزيارة، لا وقت لدي سوى الإسراع في مشاهدة قريبي المريض ومغادرة المكان بسرعة.

ويا ليتني كمثل مريضي  بلا ذاكرة،  فأوقف هذا الاجتياح الإدراكي الذي يعصف بي عقلاً وجسداً، فأمشي  بين الأسرّة غير آبه برائحة الموت الناعم المتوثب كأفعى. تقدّمت إلى الأمام مدفوعاً بحبي لقريبي ومتسلحاً بشحنة الحياة التي بثها في داخلي ذاك الطفل المقعد في سريره. وجدت قريبي المريض..

وقد زاده فقدانه لوعيه غياباً إضافياً على حالة الزهايمر التي أصابته منذ سنوات. ولأنني لا أريد المزيد من المواجهة مع الموت والأحباء على شفيره، غادرت المكان بسرعة، مررت بالطفل ولمسته بيده وخرجت.

في اليوم التالي، كان المكان يعج بالزوار، بين باك وصارخ ومصدوم، وضارب رأسه بكفيه، وأخرى منهارة مغمىً عليها فقد فارق قريبهم الحياة قبل  قليل، وشاب يصرخ على الطبيب والممرضات بحجة أنهم لم يبذلوا جهداً كافياً لإنقاذ المتوفى الخمسيني. حالة من الذعر والخوف والفوضى تتناقض تماماً مع حالة المكان الليلة الماضية. بين بكاء وصراخ وتدافع دخلت الغرفة  خائفاً من الأحياء أكثر من الأموات..

وتقاسمت دقائق الزيارة بين قريبي الغائب عن وعيه، والطفل الغريب في سريره. لأعلم فيما بعد أنه الناجي الوحيد من عائلته في حادث سير مروع وقع على الحدود الأردنية قبل أربع سنوات..

ولضمان رعايته الدائمة وضعوه في العناية المركزة، ولو نطق لقال: انقلوني من هنا حيث لا حياة ولا موت!!.  وفي اليوم التالي، توفي قريبي، وما زال الطفل المقعد المتضرر دماغياً حتى يومنا هذا يعيش في الحد الفاصل بين الحياة والموت.. ينظر يومياً في عيون الزوار، ويودّع الأموات.
 

Email