أصل الحكم الآن

ت + ت - الحجم الطبيعي

استخدمنا مفهوم الحكم عوضاً عن السلطة، فالحكم من الحكمة والسلطة من التسلط، غير أن هذا الأصل المختلف المعنى لا ينفي اتفاق الناس على أن الحكم والسلطة مفهومان مترادفان. ولكنا آثرنا مفهوم الحكم الأقرب إلى معنى الإدارة والتدبير. فالحكم بالتعريف إدارة البلاد وتدبيرها، وهذا هو الأصل في مسألة الحكم، أما تحول الحكم إلى سلطة استبداد بالبلاد والعباد فخروج عن أصل الحكم.

دعونا ندخل الموضوع في راهنيته وليس في تاريخيته، ونطرح السؤال على أنفسنا نحن العرب: ما هي أصول الحكم الآن؟ أجل الآن، وعندما نقول الآن نعني في هذه المجتمعات التي تنتمي إلى العالم الراهن، بل إن سؤالنا ينطوي على ما يجب أن يكون في الوقت الذي ينصب على ما هو كائن.

إن أصل الحكم في أكثر بلاد العرب كان قائماً على الغلبة والقوة بأشكال مختلفة، ولايزال. ولهذا فليس من المصادفة بمكان أن تشهد منطقتنا العربية انفجار العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ليس مصادفة أيضاً أن ضاق المحكوم بالحاكم وثار عليه.

 ودعونا من القول بالمؤامرة الخارجية، فلو أن قوى الدنيا تآمرت على الحكم الرشيد بوصفه تطابقاً بين المجتمع والحكم لما أفلحت في زعزعة العلاقة الصحيحة والصحية والمعقولة والمشرعنة بين بنية الحكم وبنية المجتمع. وبالمقابل، وبمعزل عن شرح الأسباب الأعمق لانفراط العلاقة بين بنية الحكم وبنية المجتمع، فإن هذا الانفراط نفسه دليل على عدم صلاحية هذه العلاقة.

لنعد إلى قولنا بأن الحكم هو إدارة البلاد وتدبيرها وإدارة البلاد وتدبيرها سياسة الدولة ككل. فيجب أن تكون هيئة الحكم، التي أطلقوا عليها اسم السلطة، ثمرة عقد وطني مجتمعي أكثري، نحن هنا نتحدث عن جوهر القضية وليس عن الأفراد. عن المبنى وليس عن المظهر. وهذا هو الأصل الأول الأساسي من أصول الحكم.

هذا الأصل يعطي الشرعية للحكم، ويشرعن سياستها في الإدارة والتدبير. وبالمقابل إن هذا الأصل ينفي أي أصل آخر للسلطة، كالأصل الأيديولوجي والأصل الديني والأصل القائم على القهر والغلبة والقوة المادية.

وروح العقد الوطني المجتمعي الأكثري لا تنفي تغير هذا العقد وتطويره بما يتلاءم مع التغير المجتمعي. وتنامي الحاجات المجتمعية، غير أن هذا التغير يجب أن يحافظ على معنى العقد الوطني الأكثري.

وعندما نقول العقد الوطني الأكثري فهذا لا يعني أنه عقد الأكثرية فقط، بل يعني أن الأكثرية التي انتجت العقد الوطني حولت العقد هذا الى عقد الجميع دون استثناء. إضافة على ذلك فإن مفهوم العقد، في جوهره، هو اتفاق حر دون إذعان. ولهذا فإن الحكم الناتج عن العقد الوطني لا يمارس سياسة إذعان الناس لما يريد، لأنه ثمرة حرية الناس. ولا يمارس حكم سياسة الإذعان إلا الحكم الذي جاء ثمرة القهر والغلبة التي تحدثت عنها سابقاً.

ولهذا فإن السؤال المطروح أمام العرب الآن هو: كيف الوصول الى حكم يكون في ماهيته حكماً ناتجاً عن عقد وطني أكثري لمجتمع حر؟ هذا هو السؤال الرئيس، وكل الأسئلة الأخرى تصدر عنه كسؤال التنمية والرفاه والعيش الكريم واللحمة الوطنية والانتماء الخلاق والأمن الوطني ...الخ.

ولعمري إن استقرار البلاد والعباد، ودرء مخاطر عدم الاستقرار وتوفير أدوات مواجهة المخاطر من أي نوع كانت وإشاعة السلم الأهلي والعيش المشترك في ظل المواطنة كل هذا وقف على إنتاج الحكم الذي طرحت.

 

Email