من حلم الوحدة إلى تسوّل البقاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكنك أن تصل لندن إذا ركبت القطار المتّجه الى روما، ولا تستطيع أن تمد رجليك في مياه المتوسط وأنت جالس على شاطئ الخليج، كما لا يمكنك أن تطلب طبق سوشي وأنت في مطعم باريسي، لكن في السياسة يمكنك أن تفعل كل ذلك من دون أن يرف لك ضمير، خاصة إذا كنت من تجار الحروب ومحترفي نظرية «الغاية تبرر الوسيلة»، فقد مات ميكيافيللي ولم تمت سياسته واحترق نيرون لكن حريق روما ظل مشتعلاً في مدن عدة بالعالم. وها هو يشتعل في عواصم ومدن عربية كانت ذات تاريخ تحلم بالوحدة فإذا بها الآن تنشد البقاء.

من المؤسف أن يبدو العرب بتاريخهم وثرواتهم ومجدهم وكأنهم فرق عِملة بين مشروعين يتنازعان المنطقة. ومن المحزن أن تكون أقدام «داعش» والحوثيين هي التي تحدّد للأجيال العربية الحالية واللاحقة حدود دولهم القادمة ونوع الهوية التي ستكون في أغلبها طائفية بامتياز.

ومهزلة سيطرة «داعش» على مدينة الرمادي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الشك في أن مؤامرة التقسيم الطائفي تجري على قدم داعشية تتقدم من أطراف المدينة إلى وسطها وإلى مسجدها وأحيائها، وقدم عسكرية عراقية تتراجع من مواقعها بتعليمات من العاصمة وتخلي مواقعها لـ «داعش» من دون أي مبرر ميداني عسكري تماماً كما حدث في احتلال «داعش» للموصل حين انسحب جيش المالكي في خطوة صدمت الجميع، ما عدا طبعاً المطّلعين على المخطط والضالعين فيه.

لقد أدت حركة «داعش» وهجومها المباغت إلى تحقيق نتائج غير متوقعة في نظر المراقبين كافة، جعلت غالبيتهم ينظر بدهشة لما جرى، نظراً لسرعة الحدث، وقوة الاندفاع، وتراجع الجيش العراقي وهزيمته في المحافظات العربية السنية التي طالها الحدث، وحصل على أراضيها التغيير لمصلحة «داعش».

ومن شأن هذا التطور أن يؤدي إلى: تمكن إقليم كردستان من تحقيق غرضه في السيطرة على محافظة كركوك المتنازع عليها بين العرب والأكراد، والعمل على ضمها للإقليم من طرف واحد، وإعلان الرغبة في استقلال كردستان عن العراق بدولة كردية منفصلة.

وباستيلاء «داعش» على المحافظات الغربية والشمالية، يكون قد تم رسم خارطة الانقسام بين المكونات الثلاثة الكردية والشيعية والسنية لدولة العراق بشكل فاقع وبارز. كيف حدثت هذه التطورات وكيف تشابكت الخيوط التي يحرّكها مخططو تدمير الأمة العربية بمعاول تسمى إسلامية ومن خلال تنظيمات بمسميات مختلفة يؤدي كل منها دوره في مرحلة معينة وصولاً إلى تفتيت الأمة وطمس هويتها ودينها وقوميتها. ففي يونيو 2011، وبعد ثلاثة أشهر من انفجار الأحداث في سوريا، بث أيمن الظواهري أمير حركة القاعدة ومرشدها العام، رسالة دعا فيها إلى «الجهاد في سوريا، وخوض معركة التحرر من الطواغيت، وتحرير ديار المسلمين، وحذر من قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسهم أميركا».

وفي 11 يناير 2012، وضعت الولايات المتحدة «جبهة النصرة» على قائمة الإرهاب، واعتبرتها امتداداً لتنظيم القاعدة في العراق، ووضعت قائد «داعش» في العراق أبو بكر البغدادي على لائحة الإرهاب، ورأت أن أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة في سوريا ينفذ تعليماته، وتم ذلك بعد نجاح جبهة النصرة في تنفيذ تفجير انتحاري يوم 6 يناير، في أحد ميادين دمشق. وفي 8 إبريل 2013 أصدر الظواهري خطاباً حذر فيه من المؤامرات على الثورة في سوريا، وحث المجاهدين على الوحدة ونبذ الفرقة، وتجاوب معه البغدادي يوم 9 إبريل 2013، بتسجيل صوتي، أعلن خلاله ما يسمى اتحاد دولة العراق الإسلامية «داع» مع جبهة النصرة تحت اسم «دولة العراق والشام الإسلامية».

ومن هنا ظهر اسم «داعش» اختصاراً لاسم الدولة المعلنة، وتوحيد رايتيهما تحت «راية الخلافة»، وقال: «لقد آن الأوان لنعلن أمام أهل الشام والعالم بأسره، أن جبهة النصرة ما هي إلا امتداد لدولة العراق الإسلامية، وجزء منها».

ولكن الجولاني لم يتأخر في الرد على البغدادي، وألقى يوم 10 إبريل 2013 خطبة مصوّرة أنكر فيها علمه بعملية التوحيد، وأنه علم بالأمر من وسائل الإعلام، وأنه لم يُستشر بها، وأعلن البيعة للظواهري وليس للبغدادي، وقال: إن جبهة النصرة باقية على حالها مع رايتها، وبهذا يكون خطاب الجولاني قد رفض فكرة البغدادي بالاندماج أو بالوحدة، وأدى ذلك إلى اشتداد الملاسنات والمعارك الكلامية بينهما، فأصدر الظواهري قراراً يوم 9 يونيو 2013، بحل «داعش» مع دعوته لبقاء جبهة النصرة على حالها، و«دولة العراق الإسلامية» على حالها، لأن إعلان الوحدة تم من جانب البغدادي بدون استشارته، وأن جبهة النصرة رفضت ذلك، ومن دون استشارته أيضاً. لكن البغدادي رد عليه برفض القرار في 15 يونيو 2013. منذ ذلك الوقت وحتى الآن تضخمت «داعش» وها هي تسيطر على الرمادي.

Email