الخطر الحقيقي من ظاهرة الخصخصة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما وصلت إلى انجلترا بين أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضى، لم يكن قد مضى وقت طويل على انتشار استخدام التليفزيون، ولكني سرعان ما اشتريت جهاز تليفزيون صغير، بالتقسيط، لكي أتابع به بعض البرامج التي تقدمها هيئة الإذاعة البريطانية من خلال التليفزيون.

من هذه البرامج مثلا برنامج اسمه «ملتقى العقول»( Brains Trust)، كان يذاع على الهواء مباشرة مرة كل أسبوع، ويلتقي فيه أربعة أو خمسة من كبار المفكرين البريطانيين ( فيلسوف ومؤرخ وعالم فى البيولوجي وربما أيضا روائي أو ممثل شهير) فيجيبون على أسئلة يرسلها المشاهدون حول موضوع معين، يخطر المشاهدون به قبل أسبوع، ولكن يسمع المتحاورون الأسئلة لأول مرة وهم جالسون أمام الكاميرا، فتأتي إجاباتهم تلقائية وطبيعية تماما.

ثم اكتشفت أن هذه الهيئة نفسها، هي التي تنتج أفضل التمثيليات، حديثة وقديمة، من مسرحيات شكسبير إلى روايات تولستوي، فاشتهرت بأن ما تنتجه منها هو أفضل ما يمكن أن تعثر عليه، إخراجا وتمثيلا وتصويرا، وأن من الممكن الحصول عليها من محلات خاصة بها، لا تبيع إلا ما تنتجه هيئة الإذاعة البريطانية.

كانت هيئة الإذاعة البريطانية ولا تزال، هيئة عامة لا تستهدف الربح، تملكها الدولة ولكنها مستقلة عن الحكومة، فلا تتغير سياساتها باستيلاء حزب جديد على الحكومة، ويختار رئيسا لها شخصية عامة تتمتع باحترام عام من الجميع، ولا تسمح يتغير نشرات الأخبار بما يلائم سياسة الحكومة الراهنة.

أما نظام العلاج المجاني، فقد حصلت منه خلال سنوات دراستي على أفضل خدمة صحية يمكن أن أتصورها، تقدم لي بعطف وأدب بالغين، دون أن أدفع مليما واحدا، بما فى ذلك الحصول على ما أحتاجه من أدوية. كان هذا هو حال زملائي من المصريين أو الأجانب فى انجلترا..

كما كان هو حال الانجليز أنفسهم بالطبع، الذين تعودوا أن توفر هذه الخدمة المجانية لهم ولأولادهم، من أول زجاجة لبن مجانية قد يحتاجها الطفل الرضيع، إلى أصعب عملية جراحية قد يحتاجها خلال حياته. كان هذا النظام تابعا أيضا للدولة، يتلقى فيه الأطباء مرتباتهم من الحكومة لا من المرضى، ولكن يتوقع منهم المرضى نفس الدرجة من العناية على الأقل التي يمكن أن يتلقوها من أى طبيب يعمل فى مستشفى خاص.

لم أستغرب إذن أن أجد منذ سنوات قليلة، أثناء مشاهدتي على شاشة التليفزيون لحفلة افتتاح دورة الألعاب الاولمبية، عندما عقدت فى انجلترا، أن بريطانيا عندما أرادت أن تضم هذه الحفلة، عروضا ورقصات تمثل أفضل ما يمكن أن يرمز للحياة في بريطانيا، كما تفعل غيرها من الدول فى مثل هذه الحفلات، كان من بين ما قدمته عروض تمثيلية، مصحوبة بالموسيقى، لما تقوم به هاتان المؤسستان فى خدمة الناس. كان هذا الاختيار يتفق تماما مع تجربتي الطويلة، ومع شعوري بالامتنان لكل منهما.

***

ها قد مضى أكثر من نصف قرن على بداية تعرفي على هاتين المؤسستين الرائعتين، فكان لابد أن يصيبهما بعض ما أصاب غيرهما من الجراح التي يأتي بها مرور الزمن. ففي كل زيارة جديدة لي لانجلترا، ألاحظ بأسف شديد ازدياد حدة الهجوم على هاتين المؤسستين، وكأن وحشا يتربص بكل منهما، رغبة فى اقتناصهما دون أن يصرح أحد بالدوافع الحقيقية لهذا الهجوم.

هيئة الإذاعة البريطانية تشكو مر الشكوى من أنها لا تحصل على الدعم الكافي من الدولة، حتى تتمكن من تحقيق رسالتها بنفس الكفاءة المعتادة.

والدولة تبرر موقفها بأنها، فى ظل التضخم وارتفاع تكاليف كل شىء، لا تستطيع أن تستمر فى دعم خدمات يمكن اعتبارها «ترفيه» بالمقارنة بسلع أو خدمات أخرى. بل ويشكك كثيرون فى أن ما تقوم به هذه الهيئة الآن، فى الراديو أو التليفزيون، يستجيب لأذواق الناس وتفضيلاتهم الجديدة، التى لا يستطيع اكتشافها والاستجابة لها إلا القطاع الخاص.

فلتنظر (هكذا يقل) إلى عدد المشاهدين لمسلسلات القنوات التليفزيونية الخاصة وبرامجها، بالمقارنة بمشاهدي البرامج والتمثيليات الأكثر جدية التى تقدمها هيئة الإذاعة البريطانية.

أما نظام العلاج المجاني، فيتعرض بدوره لنقد مستمر يقوم على اتهامه بقلة الكفاءة، بالمقارنة بالمستشفيات الخاصة، ويشار إلى الطوابير الطويلة من الناس الذين ينتظرون دورهم فى الحصول على العلاج من هذه المؤسسة القومية، أو لإجراء عملية جراحية ضرورية، قيل لهم إنه لا يمكن إجراؤها إلا بعد شهور لكثرة أعداد طالبي نفس الخدمة.

الهجوم دائما يبدأ وينتهي بتفضيل القطاع الخاص على ما تقدمه الدولة، فيوصف الأول بالكفاءة، وتوصف الدولة بأنها منتج سيء لأي خدمة أو سلعة. وتصوير الأمر على هذا النحو يبدو لي مؤسفا للغاية، وابعد ما يكون عن الحقيقة، إذ يعتمد على تقديم جزء صغير من الحقيقة على أنه الحقيقة كلها.

الكفاءة فى مفهوم الاقتصاديين تقوم على المقارنة بين العائد والنفقات. ومن الممكن أن نقبل هذا التعريف للكفاءة بشرط مراعاة الصدق الكامل فى تعريف ما هو العائد..

وما هي النفقات، فلا يقتصر فى هذا التعريف على ما يمكن قياسه بالنقود، والارتقاء العقلي والثقافي يجب أن يدخل فى حساب العائد، كما أن التدهور العقلي والثقافي لابد أن يحسب من بين النفقات. كذلك يجب فى حساب تقدير إعطاء الأولوية لعملية جراحية تنقذ حياة مريض، حتى لو كان فقيرا، بالمقارنة بعملية تجميل تجرى لشخص قادر على الدفع.

يجب علينا الاعتراف بأن هناك معايير موضوعية لتقييم خدمة أو سلعة، فلا يخضع هذا التقييم دائما لما يختاره الناس وما يستعدون لدفع نقوم من أجله، بعبارة أخرى، يجب الاعتراف بأن الحصول على غالبية الأصوات ( فى شراء السلع والخدمات كما فى الانتخابات السياسية) ليس دائما على الصواب..

وأننا فى الاقتصاد، كما فى السياسة، كثيرا ما نحتاج إلى أكثر من عد النقود، أو عقد الأصوات، للتمييز بين المفيد والضار، والضروري وغير الضروري، بل كثيرا ما نحتاج إلى «توجيه» أي إلى التدخل لتحقيق الصالح العام ، حتى لو تعارض مع كثير من الرغبات الخاصة.

هذا فى رأيي هو الدفاع الحقيقى عن «القطاع العالم»، ضد منتقديه، وهذا هو الاعتراض الحقيقي على من لا يكفون عن الدفاع عن القطاع الخاص مهما بدا منه من أخطاء أو تقصير أو تبديد الموارد القومية فيما لانفع منه. وهذا هو أيضا فى رأي المصدر الحقيقي للقلق لما يتكرر فى مصر الآن من دعوة إلى ضرورة أو أخرى من صور «الخصخصة».

Email