تأملات في أزمة مصر الاقتصادية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ملامح الأزمة الاقتصادية في مصر كثيرة، وتكاد تلمس كل جوانب الاقتصاد: معدل نمو الناتج القومي (والدخل) انخفض بشدة في السنوات الأربع الماضية، حتى لم يعد أكبر بقدر ملموس من معدل نمو السكان، معنى هذا أن متوسط الدخل للفرد الواحد لم يتحسن كثيراً، معناه أيضاً أنه، في ظل سوء توزيع الدخل، لابد أن تكون نسبة كبيرة من السكان قد انخفض دخلها ومستوى معيشتها.

بل إن توزيع الدخل نفسه لابد أنه زاد سوءاً خلال هذه السنوات الأربع، على الأقل بسبب ارتفاع معدل البطالة، وارتفاع أسعار السلع الضرورية بمعدلات أعلى مما كانت عليه قبل الثورة.

ليس من الصعب أن نتبين أسباب كل ذلك. فتدهور حالة الأمن أدى إلى تدهور مستوى الإنتاج والاستثمار والسياحة، واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي كان له هذه الآثار نفسها، ومع تدهور الإنتاج والاستثمار والسياحة كان لابد أن تزيد معدلات البطالة.

الذي يزيد الطين بلة أن الكلام الذي نسمعه والتصريحات الرسمية التي تصدر بقصد الإيحاء بأننا على وشك الخروج من الأزمة لا تشفي الغليل ولا حتى تبعث على الطمأنينة.

فالكلام كثير عن أموال ضخمة سوف تتدفق علينا في صورة قروض وودائع واستثمارات، وعن عاصمة جديدة ستبنى، وعن أموال كثيرة سوف تنفق على أفقر القرى، وأن الحكومة تضع مصلحة محدودي الدخل في قمة أولوياتها، وأن التقارير الجديدة من الهيئات الدولية تعبر عن ثقة أكبر في مستقبل الاقتصاد المصري .. الخ.

كل هذا لا يشفي الغليل ولا يطمئن. فالأموال التي يقال إنها ستتدفق لا يقال لنا بالضبط هل هي مجرد وعود أم اتفاقات ملزمة؟ وما نوع القروض: ميسرة أم غير ميسرة؟ وما هي شروط الودائع، لنعرف مدى إمكانية استخدامها في التنمية؟ وما نوع الاستثمارات بالضبط؟ وكم ستخلق من عمالة؟ وهل ستذهب إلى أكثر المناطق في مصر حاجة إليها؟

وهل بناء عاصمة هو ما نحتاجه الآن؟ والكلام عن مراعاة مصلحة محدودي الدخل لا يتفق مع ما يصدر بالفعل من قرارات أو تصريحات، كالإصرار على تخفيض الدعم أو إلغائه قبل اتخاذ إجراءات لإعادة توزيع الدخل، والاتجاه نحو تخفيض الضرائب على الدخول العليا، ونحو مزيد من الخصخصة ... الخ.

***

من متابعة ما يصدر من تصريحات لا يبدو أن أصحابها يفرقون بين النمو والتنمية. النمو قد لا يعني أكثر من زيادة عارضة في الدخل، قد تكون زيادة مؤقتة وليس من المضمون استمرارها، بينما التنمية، التي تتضمن زيادة في قدرتنا الإنتاجية، تنطوي على زيادة باقية في الدخل، ووضع أسس صلبة لاستمرارها في المستقبل.

التنمية، لا النمو، هي التي حدثت في الدول التي نسميها بالمتقدمة ولم تحدث في بلادنا بعد والتنمية، لا النمو، هي التي تقترن بأشياء جميلة أخرى، حتى في خارج الميدان الاقتصادي، فهي التي تؤسس لنهضة ثقافية، وترسخ العقلانية في الفكر (بما في ذلك ما يسمى الآن بتجديد الفكر الديني). وهي، لا النمو، التي تساهم، عاجلاً أو أجلاً، في حدوث تحسن في توزيع الدخل، إذ أنها هي التي تقضي على مشكلة البطالة وترفع من مستوى معيشة العمال.

إن الفرق بين التنمية والنمو يشبه الفرق بين التنفس الطبيعي والتنفس الصناعي، على الرغم مما يقد يبدو بينهما لأول وهلة من شبه. الأول يمكن الاطمئنان إلى استمراره، بينما نتوقع توقف التنفس الصناعي في أي لحظة، والأول، أي التنفس الطبيعي، هو الذي يسمح للمرء بأن يمارس مختلف وظائفه الأخرى، غير مجرد التنفس.

***

لابد من الاعتراف بأن التفرقة بين النمو والتنمية (أي بين زيادة الدخل وزيادة القدرة الإنتاجية)، ليس سهلاً دائماً. فالمقصود بزيادة القدرة الإنتاجية الإضافة إلى ما لديك من موارد منتجة، كزيادة الأراضي الزراعية (باستصلاح أراضٍ جديدة أو زيادة خصوبة الأراضي القديمة بإصلاح نظام الري أو ترشيد الدورة الزراعية)، أو بناء مصانع جديدة، أو تحسين نوع الموارد البشرية بالتعليم، أو زيادة وتحسين وسائل المواصلات.. الخ..

ولكن تصور مشكلات بصدد كل من هذه العناصر، لها علاقة بالتفرقة بين النمو والتنمية. إن أبسط هذه المشكلات وأوضحها هي احتمال الخلط بين إضافة موارد وبين بيع ما لديك من موارد موجود بالفعل، أو ما يسمى أحياناً بالخصخصة.

 

Email