طهران - هافانا.. وبينهما واشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل تتذكرون المواقف الأميركية من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات؟ لطالما اعتبرته واشنطن زعيماً إرهابياً لجماعة إرهابية، إلى أن جاء اليوم الذي فتحت فيه أبواب البيت الأبيض مشرعة أمامه أكثر من مرة..

وفي أكثر من مناسبة، لدرجة أن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، استضافه في استراحة كامب دايفيد، عدة أيام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، في محاولة لإبرام تسوية شاملة، عشية رحيل الرئيس الأميركي من مقعد الرئاسة عام 2000.

لم يكن التحول الأميركي تجاه عرفات هو الأبرز تاريخياً في هذه الظاهرة «الأميركية بامتياز»، وإذا كانت المقولة الشهيرة تؤكد أنه في العلاقات بين الدول لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة..

ولكن هناك دوماً مصالح دائمة، فإن الولايات المتحدة، تظل النموذج الأهم لكل من يريد دراسة التحولات السياسية الخارجية من النقيض للنقيض، سواء لأسباب برجماتية نفعية، أو لتطورات وأحداث مستجدة تفرضها الظروف الآنية أو الطارئة.

حدث هذا في زمن نيكسون مع موسكو وبكين، تحت شعار سياستي الوفاق والانفراج، وحدث مع فيتنام ذاتها بعد سنوات من القتال الدامي ومصرع الملايين من البشر، ونحو ستين ألف عسكري أميركي، حيث حرصت واشنطن على تطبيع العلاقات مع من قاتلت وغزت، وحدث أيضاً مع أقرب الأصدقاء عندما تركت شاه إيران الراحل، يترنح أمام ثورة الخميني عام 1979..

وتركت نظام بريتوريا يسقط أمام ضربات ثوار جنوب أفريقيا، لتنهار دولة الفصل العنصري 1991، وطالما أيدتهما واشنطن على حساب ملايين الأبرياء، ثم تخلت عن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، بعدما تصاعدت ثورة الشباب ضده في يناير عام 2011، بدعم صريح من الإدارة الأميركية، التي كثيراً ما ساندت مبارك ونظامه لسنوات عديدة، واعتبر في ضوء ذلك من أقرب حلفائها بالمنطقة.

هذه التحولات الأميركية الحادة، جاءت بعدما سقط الملايين من الضحايا في مواقع متباعدة من العالم، بسبب السياسات الأميركية المتشددة تجاه أنظمة سياسية بعينها، قبل أن تستفيق وتعود إلى جادة الصواب، فالذي رفضته في البداية، قبلت به في نهاية المطاف، والذي قبلت به في البداية، فعلت عكسه في النهاية، وذلك في تعبير صريح عن النفعية الأميركية..

وأقرب مثال على ذلك، موقف إدارة الرئيس أوباما من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وما حدث على يديه تحديداً، وبدعم من الشعب المصري منذ الثلاثين من يونيو عام 2013، وفي هذه الحالة تحديداً، أدركت واشنطن خطأ موقفها بشكل عاجل، ليس كرم أخلاق منها، ولكن بفعل ضغوط عنيفة من الداخل المصري والمحيط العربي.

هذه الحقائق أطلت برأسها، فور إعلان رغبة الرئيس الأميركي، أو بمعنى أدق، توجهاته نحو رفع العقوبات الأميركية المفروضة على كوبا، بعد رفع اسمها من قائمة الإرهاب، غداة لقائه الرئيس الكوبي راؤول كاسترو..

وأيضاً على ضوء اتفاق لوزان، الذي فتحت واشنطن بمقتضاه صفحة جديدة في العلاقات مع طهران، واقترن بذلك سؤال قد تكون له أهميته، هل كان ينبغي مرور كل هذه السنين، قبل أن تنتبه واشنطن وتتخذ خطوات إيجابية، من بينها رفع العقوبات، تجاه الدولتين؟

قد تكون كوبا النموذج الملح والعاجل أمامنا، بحكم تصدرها الأحداث الدولية في الأيام الأخيرة، وبحكم أنها صاحبة أطول فترة تتعرض خلالها دولة لعقوبات اقتصادية خارجية، وتعد دليلاً عملياً على فشل منهج وتطبيقات العقوبات الأميركية بأشكالها المختلفة في تحقيق أهدافها..

وقد كان الأثر مأساوياً على كوبا وسكانها، فالولايات المتحدة كانت دوماً هي السوق الطّبيعية لجزيرة كوبا، وفي سنة 1959، كانت نسبة 73 في المئة من صادرات الجزيرة موجهة إلى جارتها الشمالية، و70 في المئة من الواردات قادمة منها، وفي ظرف أسابيع انقطعت هذه المبادلات تماماً.

أما تبريرات حالة الحصار الاقتصادي هذه، فقد تطورت عبر السنين. كانت واشنطن سنة 1960، تتعلل بمصادرة الحكومة الكوبية لمؤسسات أميركية..

وبداية من سنة 1961، أصبح البيت الأبيض يبرر موقفه بالتقارب بين الجزيرة والاتحاد السوفييتي السابق. أما بعد ذلك، أصبحت مساندة كوبا للمجموعات المسلحة في أميركا اللاتينية في صراعها مع الدكتاتوريات العسكرية أو تدخلاتها في أفريقيا، الحجج التي ترتكز عليها الولايات المتحدة، لتبرير الحظر الاقتصادي.

وعلى وجه التقريب، كانت سياسات العقوبات الأميركية أيضاً تجاه طهران، هي المنهج المفضل منذ الثورة الإسلامية الإيرانية، وكانت قد تفجرت غداة أزمة كبرى بين واشنطن وطهران، بعد اقتحام عناصر من الحرس الثوري الإيراني للسفارة الأميركية، واحتجاز مئات الأميركيين كرهائن لمدة 444 يوماً، الحادث الذي فجر العداء بين البلدين، إلى أن كان التحول الجديد لواشنطن، بإطلاق يد إيران في المنطقة.

قد تبدو المسافة بعيدة جداً بين طهران وهافانا، بدون رابط بينهما جغرافياً، ولكن تطورات الأحداث الأخيرة، جمعتهما من خلال عاصمة ثالثة عظمى، هي واشنطن، التي قدمت للعالم من خلالهما، أحدث درس ونموذج في كيفية تحول السياسة الأميركية للنقيض، وتؤكد كذلك أن حركة التاريخ، تثبت أن الشعوب والدول أقوى من أي عقوبات، وأن دوام الحال من المحال، خاصة مع العم سام.

 

Email