لا أصدق من صوت البنادق

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مقولة لقبائل النافاهو مفادها «أنك لا تستطيع إيقاظ من يتظاهر بالنوم»، فمن أراد لنفسه مسلكاً معيناً لن يكون من المتيسّر تغيير قناعاته مهما كانت المسببات مقنعة ومنطقية، ومن اعتاد على شيء سينتقل الأمر من مجرد ممارسة إلى عادة متجذرة في النفس لا يمكن الفكاك منها، وهكذا كان الأمر مع الصمت العربي وقضية ضبط النفس وفتح باب الحوار الذي لم يكن سوى باب للتجرؤ عليهم ومزيد من التنازلات في عالم لا يعرف سوى لُغة القوة.

كنّا نهرب إلى الماضي من واقعنا المرير وضياع حقوقنا وتمالؤ الغرب والشرق علينا من أجل مصالحهم، فما أن نفيق من لدغة معسكر شرقي إلا ونُمسي على صفعة معسكر غربي، نراهن كعادتنا على المبادئ والقيم النبيلة وعلى مد يد المصالحة في عالم تختبئ خلف ياقاته الملونة وملابسه الأنيقة عينا بربري وقلب ذئب لا يرى سوى مصالحه الضيقة. كلما دارت علينا رحى الأيام ولم نجنِ من أمين الأمم المتحدة سوى «قلقه» بينما تعيث أيدي البرابرة على اختلاف مللهم ونحلهم خراباً ودماراً في بلادنا العربية نجد شيئاً من السلوان بين ثنايا صفحات كتب تعبت من كثرة تصفحنا لها، لكننا نقرأ للمرة الألف مقولة الرشيد: «من عبدالله هارون إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه» ونعيد تكرار هبّة المعتصم لنداء تلك المرأة «وامعتصماه»، حتى ظننا أن اليوم وما بعده لن تعدو أن تكون محطات جديدة من الألم والغبن وابتلاع الغُصَص، ولم نعرف ماذا نقول لأنفسنا ونحن نرى قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني يتجوّل في وضح النهار مُحاطاً بجنوده في جبهات القتال في العراق وسوريا وكأن بلاد العرب قد أصبحت مقاطعات إيرانية، وعندما تعدى علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني كل الأعراف الدبلوماسية ومبادئ حسن الجوار ليُطلق مقولة صادمة بأنّ بغداد «عادت» عاصمةً للامبراطورية الإيرانية العائدة والمتمددة !

تساقطت عواصم العرب الواحدة تلو الأخرى: بغداد، دمشق، بيروت وكانت رابعتها صنعاء في أيدي «البُغاة» الجُدد وأعوانهم من قرامطة العصر الحديث، وصحونا على واقعٍ مرير بعد أن تمّت الإحاطة بدول الخليج من كل مكان تقريباً في تواطؤ مخجل من اللاعبين الكبار في المشهد السياسي العالمي حتى غدونا كما قال المولى سبحانه : «إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا»، واتضح من جديد أن طاولة الكبار لا تصلح معها حقائق أو تفنيد دعاوى، بل لا تفقه سوى صوت القوة ومنطقها لا غير، وهكذا كان عندما صحونا من غيبوبة الوهن على خبرٍ لم نعهده منذ سنين الله وحده يعلم كم عددها، والسعودية وشقيقاتها الخليجيات والعربيات تشكّل أسرع جبهة تحالف عسكري وتُطلق عاصفة الحزم لإعادة الأمور في نصابها الشرعي في اليمن، وترتبك معها ردود أفعال الجهات التي صدمتها هذه المفاجأة وهي التي طالما سوّقت وراهنت على ضعف العرب وتشتتهم واستحالة مجابهتهم للتفوق الإيراني الذي تلاعب طويلاً بالغرب والشرق فيما يخص ملفها النووي!

لم تتحرك دول التحالف العربي إلا بعد أن اتضحت الصورة بأنّ الغرب على مسافة شبر من بيع المنطقة لنفوذ إيران من أجل «ملء الفراغ» العسكري، كما يقول ذلك العقيد الأميركي ويسلي مارتن القائد العسكري السابق بالعراق، واتضح ذلك في استمرار تغييب دول الخليج من المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني وكأن دولنا تقع على خليج المكسيك وليس قبالة ساحل دولةٍ لم تتوقف عن التدخل في شؤون جيرانها العرب، وخرج وزير خارجيتها محمد جواد ظريف في جولة لطمأنة حلفاء إسرائيل بأنّه «لا نيّات عدائية لإيران إزاء إسرائيل وأنّ عرب الخليج تحديداً هم أساس البلاء ورعاة التطرف والإرهاب»، وتظهر بشارات أن المفاوضات أوشكت على النجاح وقُرب رفع العقوبات، ما يعني زيادة التدفقات النقدية وعودة الاستثمار الأجنبي وبالتالي تدعيم آلات التحريض والتخريب ورفد خلاياها النائمة في البلدان العربية بدعم مالي ولوجيستي مضاعف!

عاصفة الحزم، هي أكبر من حملة عسكرية لتطهير بلد عربي من سموم وخلايا سرطانية تحاول اغتيال حكومة شرعية بمنطق القوة، بل هي عاصفة أمل لشعوب المنطقة وسحابة أمان همى غيثها على قلوب شعوب الخليج تحديداً بأن مستقبل الخليج في أيادي قادرة على حمايته من تغوّل البُغاة وتآمر المرجفين والمعادين، ولا أدل على ذلك من الدعم الشعبي الساحق للعاصفة وقرارات قيادات الخليج والتي خلطت أوراق البقية وأجبر النجاح العسكري والقدرة الدبلوماسية العالية للسعودية وشقيقاتها مجلس الأمن ليوافق أخيراً على مشروع قرار يُنصف العرب ويضع النقاط على الحروف في المشهد اليمني في إجماع هو الأول من نوعه، ويجبر الغرب على مراجعة بنود الاتفاق مع إيران في مشروعها النووي والذي يبدو أن الكونغرس الأميركي لن يجعله يمر كما اشتهت طهران.

المهم أن نعي مستقبلاً كما تقول حكمة النافاهو من جديد : «الضباع دائماً تنتظر في الظلام، وهي دائماً جائعة»، فالعدو قد يعدّل خططه لكنه لن يغير قناعاته، والثعبان قد يُغيّر جلده لكن سمّه سيبقى قاتلاً وغادراً دوماً، والقضايا النبيلة لن تقف وحدها إن لم يُساندها سِنانُ يُقاتل من أجلها، وفي عالمٍ لا يعترف بغير منطق البقاء للأقوى لن يكون لصوت العقل كبير أثر، فما أنقذ اليمن بعد الله تعالى لم تكن طاولات المفاوضات ولا وثائق الشرعية ولكن أنصفت حُجتها فوّهات البنادق وقاذفات الـ F16.

Email