عن أنصار اللامساواة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاولت في المقال السابق أن أشرح باختصار شديد، التاريخ المحزن الذي مرت به الدعوة إلى المساواة بين البشر، فقلت إنه كلما حدث شيء يجعلنا نظن أننا نقترب من تحقيق المساواة، كما لو ظهر زعيم كبير ومحبوب يدعو إليها، أو قامت ثورة ترفع شعارات المساواة، يحدث ما يخيب آمالنا، وينتصر من جديد أنصار اللامساواة والمستفيدون منها، مستخدمين في ذلك القوة المادية، بما في ذلك سلطات الدولة.

حدث هذا للثورة الفرنسية، وللثورة الروسية، بل وأيضاً للثورة الصينية، ثم أخيراً للثورة المصرية. هكذا أيضاً كان مصير الحركات الاشتراكية الكبرى، من الاشتراكية المسماة بالطوباوية، إلى الاشتراكية الماركسية، إلى الغبية..الخ.

ولكن أنصار الرأسمالية والمدافعين عن استمرار اللامساواة، لم يكتفوا باستخدام القوة المادية للانتصار على معارضيهم، بل وجدوا من الضروري أيضاً استخدام سلاح الأفكار، فنظام العبودية مثلاً يكون أكثر رسوخاً عندما يضاف إلى القهر المادي، النجاح في إقناع العبيد أنفسهم بأنهم فعلاً أقل جدارة من ملّاكهم.

كان شيء كهذا هو مصدر تلك الفكرة التي جاء بها المفكر البريطاني آدم سميث، قبيل قيام الثورة لفرنسية، عندما زعم أن المساواة من شأنها تعطيل النمو الاقتصادي، وأن اللامساواة شيء مفيد لزيادة «ثروة الأمم».

ثم سار وراء سميث في ترديد هذه الفكرة سائر اقتصاديي «المدرسة الكلاسيكية» في الاقتصاد، فقدموا هذه الفكرة وكأنها من البديهيات، وردّدها بعدهم جيل بعد آخر من الاقتصاديين، حتى وصلنا إلى اقتصاديي البنك الدولي وصندوق النقد.

كلّهم الآن يقولون إن المساواة مضرة بالنمو الاقتصادي، وإن أفضل ما يمكن أن تفعله لزيادة معدل النمو، حتى في الدول الفقيرة، أن تجعل الأثرياء أكثر ثراء، فسوف يؤدى هذا إلى انتشال الفقراء من فقرهم.

كانت هذه الفكرة مبنية على حجة بسيطة وهي أن النمو الاقتصادي يحتاج إلى زيادة الاستثمارات، وهذه تحتاج إلى مدّخرات، ولكن الأثرياء هم وحدهم القادرون على الادّخار، إذ إن الفقراء بحكم فقرهم ينفقون كل دخلهم على الاستهلاك. لهذا فإن أية محاولة لأخذ المال من الغني وإعطائه للفقير سوف تنتهي بإفقار الغني والفقير على السواء.

لكن أنصار اللامساواة أضافوا منذ البداية حجة أخرى تدور حول الديمقراطية. فالمساواة في نظرهم لابد أن تأتي معها الدكتاتورية. المساواة إذن تجبرنا على التخلي عن هدفين عظيمين: النمو الاقتصادي والديمقراطية السياسية.

ولكن هذه الحجة أيضاً تتجاهل ما تؤدي إليه اللامساواة من إضرار بالديمقراطية، حيث يؤدي تركز الثروة في أيد قليلة إلى شيء شبيه بما يؤدي إليه تركّز السلطة في أيد قليلة من إضرار بالحرية والديمقراطية. ألا ترى ما يؤدي إليه مثلاً تركز ملكية الصحف في أيد قليلة إلى غسيل المخ وسيادة الرأي الواحد، وما يؤدي إليه التفاوت الكثير في الثروة من العبث بحرية الترشيح والانتخابات النيابية!

قرأت مؤخراً أن أكبر المفكرين المدافعين عن الرأسمالية بحجّة أنها تحمي الناس من الدكتاتورية والفاشية، كانوا من الأوروبيين الهاربين من الحكم الفاشي في ألمانيا أو النمسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى؟ وهاجروا إلى إنجلترا أو أميريكا، ورفعوا لواء الدفاع عن الرأسمالية بهذه الحجة، وكأن الاختيار الوحيد المتاح هو تركز السلطة في ظل الفاشية، أو تركز الثروة في ظل الرأسمالية.

لابد أن أعترف بأنه حدث في الأربعين أو الخمسين عاماً الأخيرة ما جعلني أتساءل عما إذا كانت الدعوة إلى المساواة لا زالت لها ما كان سابقاً من جاذبية وسحر، أم أن هذا الذي حدث من شأنه أن يضعف درجة تحمّسنا لها.

Email