المساواة.. تاريخ محزن لهدف عظيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب الذي ظهر في فرنسا في العام الماضي والذي شغل الناس وما زال يشغلهم، اسمه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين»، ولكن موضوعه في الحقيقة ليس رأس المال، بل المساواة واللامساواة. وانشغال الناس به لهذه الدرجة، في بلاد كثيرة، يدل على مدى اهتمام الناس بهذا الهدف: «المساواة بين البشر»، وهو الهدف الذي استمر طوال القرون الثلاثة الأخيرة، وما زالت تؤلف فيه الكتب، وتقوم من أجله الثورات، على الرغم من أن التاريخ الذي مرت به هذه الدعوة إلى المساواة، على أرض الواقع، لا يدعو بالمرة إلى التفاؤل.

إن تأمل ما تعرضت له هذه الدعوة عبر التاريخ، من فشل بعد فشل، وخيبة أمل بعد آخر، جدير بأن يجعلنا نتوقف قليلاً لنسأل عن السبب أولاً، ومن ثم نسأل عما إذا كنا محقين(مدام الأمر كذلك) في تعليق كل هذه الآمال على تحقيق هذه الدعوة في الواقع. إن هذا الفشل في تحقيق المساواة (بل وحتى في الاقتراب منها) ليس قاصراً على دولة دون أخرى، بل نشاهده في العالم ككل.

وهو فشل لا يقتصر على المساواة الاقتصادية والاجتماعية بين شرائح المجتمع، في داخل الدولة الواحدة، بل يظهر أيضاً في المقارنة بين الدول، بعضها ببعض، وبين المنتمين لأجناس مختلفة، ولأديان مختلفة، وكذلك بين الرجل والمرأة.

لقد قدم توماس بكيتي ( T.Piketty)، مؤلف هذا الكتاب، قدراً وافراً من الإحصاءات التي تدل على أن طوال مدة تزيد على قرنين وفي عدد من الدول يزيد على العشرين (إذ ليس من السهل العثور على إحصاءات موثوق بها لعدد أكبر من الدول أو لفترة زمنية أطول)، كانت المجتمعات تبعد أكثر فأكثر عن تحقيق هدف المساواة، باستثناء فترة قصيرة لا تزيد على أربعين عاماً (هي جزء من ثلاثينات القرن العشرين وربع القرن التالي للحرب العالمية الثانية)، وفترة حدثت فيها أحداث استثنائية يصعب تكرارها (الأزمة العالمية، ثم العرب العالمية، ثم تدخل الدولة لإعادة توزيع الدخل مما عرف بدولة الرفاهية)، ومن ثم فلا توجد ظروف استثنائية جديدة، تدفعنا إلى بذل جهد غير عادي لوقف هذا الاتجاه نحو المزيد من اللامساواة.

لا بد أن يستولي علينا العجب من أن يكون هذا مصير فكرة تتفق إلى هذا الحد من الفطرة السليمة، ودعت إليها كل الأديان الكبرى، وكانت محور دعوات كثيرين من كبار المصلحين على مر العصور، ومنهم فلاسفة التنوير في العصر الحديث، ودعاة الاشتراكية، وقامت من أجلها ثورة بعد أخرى، في بلاد مختلفة من العالم، بما في ذلك ثورة مصر الأخيرة في 2011.

في كل مرة ترتفع فيها الآمال، ويسود الاعتقاد بأننا على وشك تحقيق هدف المساواة، يحدث ما يخيب هذه الآمال. فالثورة الفرنسية، في نهاية القرن الثامن عشر، التي جعلت المساواة واحدة من أهدافها الثلاثة الكبرى، سرعان ما مارس قادتها الإرهاب باسم الثورة، فأطاح هذا بالهدف وبالأمل في تحقيقه، ومهد الطريق لعهد جديد وطويل من التمييز الطبقي. والثورة الروسية، في مطلع القرن العشرين، التي قامت باسم هذا الهدف دون غيره، سرعان أيضاً ما جلبت عهداً من الإرهاب خلق طبقة عليا جديدة تمارس القهر باسم المساواة.

إذا كان الأمر كذلك، لا يصبح أمامنا إلا التسليم بأن عقبات كأداء تقف بيننا وبين تحقيق المساواة المنشودة، وبأن هذه العقبات لا تتعلق فقط بنوع النظام السياسي أو الاجتماعي السائد، بل تتعلق أيضاً، على الأرجح، بشيء يقع في صميم الطبقية الإنسانية، ومن ثم يصعب استئصاله.

Email