التوت والنبوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ملحمة «الحرافيش» الشهيرة، يصور لنا أديبنا العربي العالمي نجيب محفوظ كيف يستمد «الفتوة» قوته من ضعف أهل الحارة واستكانتهم، حتى يركبه الغرور فيمضي في فرض الأتاوات عليهم، والتحكم في تفاصيل حياتهم اليومية، رغم أن أهل الحارة غالباً ليسوا ضعفاء، وإنما طيبون، تمنعهم طبيعتهم من مواجهة الشر بالشر، حتى تأتي اللحظة التي يضع فيها أهل الحارة حداً للطيبة، فيبرز من بينهم من يتصدى لغرور «الفتوة» وصلفه، ليعيده إلى حجمه الحقيقي، ويعيد للحارة أمنها واستقرارها وطمأنينتها، ويحفظ لأهلها مصالحهم التي كانت مهددة من قبل «الفتوة» وصبيته الذين يستخدمهم لترويع الناس، وبث الخوف والفزع بينهم.

ما يحدث في الرواية على مستوى الحارة، يحدث أيضاً في الحياة على مستوى أكبر، حين تشعر دولة ما بالغرور لسبب أو لآخر، يكون في الغالب مرتبطاً بأحلام الهيمنة والتوسع، لإعادة أمجاد سابقة عفا عليها الزمن، فتبدأ محاولة العبث بأمن جيرانها، ومد نفوذها إلى خارج حدودها، معتقدة أن سكوت هؤلاء الجيران وصبرهم ناتج عن ضعف، أو عدم قدرة على مواجهة ما تقوم به من عبث، حتى تأتي اللحظة التي ينفد فيها مخزون الصبر، ويتحول إلى بركان غضب وعواصف تكتسح أولئك الصبية الذين تستخدمهم لتنفيذ أغراضها، وفرض أجندتها لتغيير خرائط المنطقة، وزعزعة أمن البلدان، والإضرار بمصالح الجيران.

«الفتوة» في المنطقة وصل في الآونة الأخيرة أقصى درجات الصلف والغرور، واعتقد أن حلمه أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وأن مشروعه التوسعي يقترب من الاكتمال، فأطلق صبيته في المنطقة ليعبثوا بأمن بلدانهم، وينشروا فيها الفوضى، متحدّين الشرعية، بل مستغلينها كي تصبح غطاءً لما يقومون به من ممارسات غير شرعية، بغية تحقيق أهداف الذين يحركونهم من الخارج، ويمدونهم بكل أسباب الاستقواء على الدولة الشرعية، وتوجيه دفة الأمور لصالحهم، ليكون المستفيد الأكبر مما يقومون به هو من يحرك هؤلاء الصبية والأذناب.

من هنا تأتي أهمية «عاصفة الحزم» التي بدأت فجر الخميس الماضي ضد الحوثيين في اليمن، بعد أن وصلت الأمور حداً غير معقول ولا مقبول، بدعم من الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، المدفوع بالرغبة في الانتقام من الشعب الذي خلعه، والعودة إلى سدة الحكم من خلال ابنه، حتى لو كان هذا عن طريق التحالف مع أعداء الأمس الذين لهم أجندتهم المرتبطة بحلم عودة الإمبراطورية ، التي غدت تتباهى بسيطرتها على أربع عواصم عربية من بينها صنعاء.

لذلك فإن «عاصفة الحزم» تمثل، بهدفها المحصور في وضع حد للتغول الحوثي، نهاية صبر دول الخليج العربي على الصلف الذي جاوز حدوده، لكنها تمثل، بأهدافها الكبرى، نهاية مرحلة الصمت تجاه ما يجري من أحداث على الساحة العربية، بتحريك من أصابع خارجية، تستفيد من تحريكها دول ذات أطماع ومصالح تتقاطع مع مصالح الأمة العربية، التي غدت تمزقها الحروب الداخلية أكثر مما تهددها القوى الإمبريالية التي طالما ألقينا عليها تبعة كل ما يحدث لنا من مصائب وكوارث، وإن كانت أيدي هذه القوى غير نظيفة تماماً مما يجري اليوم وما سيجري غداً، لأن هذه الأيدي ليست ملائكية ولا خارجة من أنهار الطهارة والعفة.

لقد كانت كل العواصف التي هبت على المنطقة، أو انطلقت منها، على مدى ربع القرن الماضي على الأقل، منذ احتلال الكويت المشؤوم من قبل قوات صدام حسين، الذي كان مدفوعاً هو الآخر بحلم الهيمنة والتوسع على حساب جيرانه، كانت كل هذه العواصف أجنبية، بدءاً من «عاصفة الصحراء» وما تلاها من عواصف لم نعد نحصي أسماءها.

وحدها «عاصفة الحزم» التي هبت الأسبوع الماضي جاءت بقرار عربي صرف، وتخطيط عربي خالص، من دول عربية انتفضت لعروبتها، وبنفس عربي زكي، فهل تكون هذه العاصفة نهاية لعصر الرياح التي طالما عايرنا بها المتدثرون بغطاء الإسلام السياسي، والمتزملون برداء القومية العربية، وبداية لعصر رياح عربية خالصة، تعيد للأمة قوتها التي تضعضعت، وهيبتها التي ضاعت وأصبحت هشيماً تذروه الرياح، الأمر الذي أدى إلى ظهور «فتوات» ما كان لها أن تظهر لولا غياب الإرادة العربية، وما كان لها أن تحلم بإعادة مجد إمبراطوريات لم يعد لها مكان في عصرنا الحاضر، ولا مستقبلنا الذي نراه أكثر إشراقاً، بعودة القرار العربي، والحزم العربي، والإرادة العربية؟

لقد كانت حجة الذين عارضوا كل خطوة قامت بها دول الخليج العربي للدفاع عن نفسها، هي أنها قد تمت بقرار أجنبي، وأيد أجنبية، لتحقيق أهداف أجنبية، وهي مزاعم فيها الكثير من المغالطة، فهل يكون اعتراف المسؤولين الأميركيين بأن دول الخليج العربي لم تنسق هذه المرة مع واشنطن عسكرياً، ولم تبلغها بنيتها شن عمليات عسكرية ضد الحوثيين إلا في اللحظات الأخيرة قبل التنفيذ، هل يكون صك براءة من العمالة التي طالما وصمها بها المتأسلمون ومدعو القومية العربية، وإن كانت هذه الدول غير محتاجة إلى هذا الصك، ولا يعني لها شيئاً؟

الطقس في المنطقة العربية عاصف من ناحية العمليات التي يقوم بها تحالف دول الخليج العربية، لكنه صحو من ناحية أنه يعيد الأمل في أخذ الدول العربية لزمام الأمور بيدها، والانطلاق نحو زمن عربي جديد، تستعيد فيه الأمة قرارها وإرادتها، ولا تترك فرصة لظهور «حرافيش» جديدة، مثلما فعل «عاشور الناجي» بطل نجيب محفوظ في الجزء الأخير من ملحمته، الذي أطلق عليه أديبنا العالمي «التوت والنبوت».

Email