كلام عن اليمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أشد حزني إذ أسمع أخبار الاقتتال بين أبناء اليمن. أقول لنفسى: هل فرغ اليمن أو العرب من مشكلاتهم حتى يفتحوا موضوع الاختلاف المذهبي؟ بل هل يصح أن يثير أحد اليوم الخلافات؟ ناهيك عن أن يقتل المسلمون بعضهم بعضاً، لاختلافهم حول هذا الأمر؟.

يزداد حزني إذ أتذكر ما شعرت به لدى رؤيتي لليمن لأول مرة (وهى المرة الوحيدة) في أوائل الثمانينات. كم بدت لي صنعاء وقتها مدينة رائعة الجمال، وشعبها راقياً، وأقرب في ظروفه وحكمته إلى قلوب المصريين، ربما أكثر من أي شعب عربي آخر. بدا لي في ذلك الوقت أن المشكلة الأساسية التي تواجه اليمن، وهي في بداية اتصالها بالعالم الحديث، هي اختيار أفضل أنماط التنمية، وأكثرها ملاءمة لظروف اليمن.

بدا لي، منذ ثلاثين عاماً، أن الخط الأساسي الذي يواجه اليمنيين هو أن يفرض عليهم فرضاً نمط من أنماط التنمية ليس هو أفضل الأنماط، سواء من وجهة النظر الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو الجمالية، لمجرد أنه هو النمط الذي يخدم مصالح اقتصادية أجنبية.

كنت أعرف عندما شرعت في السفر إلى اليمن أن الأمم المتحدة تصنفها (مع 22 دولة أخرى) في مجموعة يطلق عليها «أقل الدول نمواً»، مع دول كالحبشة والصومال وأفغانستان، وهو وصف مهين لأية دولة، خاصة لدولة كانت تسمى حتى وقت قريب «اليمن السعيد».

فلما رأيت اليمن أدركت أن الوصف ليس فقط وصفاً وقحاً، بل مدعاة للسخرية، ليس من اليمن بل من الأمم المتحدة. إذ فلتأت الأمم المتحدة بمعمار أجمل من المعمار اليمنى، وبنظام أنسب للاستغلال الزراعي من المدرجات اليمنية، أو بشعب أكثر اعتزازاً بلغته وتراثه من الشعب اليمنى، أو بحياة اجتماعية أكثر صلابة، أو بعاصمة أكثر هدوءًا وروعة من صنعاء، باستثناء الشوارع الثلاثة الرئيسة التي غزتها البلاد الصناعية (الأكثر تقدما) بسياراتها وضجيجها وتلوثها وانكبابها على الربح.

نعم كان لابد من تعميم المياه النقية الصالحة للشرب وتخفيض مستوى الأمية، وهذا مثله هو المبرر الحقيقي لقيام ثورة اليمن في 1962، ولكن هل يصح باسم القضاء على الركود أن تأتى الدول الصناعية وجيوش الخبراء الأجانب لكى تبيع لليمن آلاف السيارات الخاصة، ولتبنى لليمن فنادق ليس هناك أدنى صلة بين معمارها والمعمار اليمنى، أو بمبنى للبنك المركزي اليمني يحجب الجبل المحيط بصنعاء، ويكاد يتسع لإيواء سكان صنعاء برمتهم، وهل كان خروج اليمن من عزلتها يفرض بالضرورة أن تضطر العائلة اليمنية للجلوس لمشاهدة برامج تلفزيونية من نوع (العالم يغني)؟، وأن تضطر الفتاة اليمنية إلى أن ترتدي في استعراض عيد العمال، قميصاً أبيض يحمل على ظهره إعلاناً عن «السفن أب» كما رأيت بعيني على شاشة التلفزيون اليمني؟ هل مثل هذا هو الذي يؤهل اليمن للخروج من فئة (أقل دول العالم نمواً)؟ قال لي شاب يمني ظريف، وهو يعلق على الحملة التي تثار في وسائل الإعلام عن أن الخمر الأوروبي والأميركي أفضل للصحة والحياة الاجتماعية من القات اليمني؟ والله لو منعونا من زراعة القات، لصدروه لنا معلباً!

ها أنا ذا الآن، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، أتساءل من جديد عما إذا كان الخلاف المحتدم بين أبناء اليمن، مذهبياً، يستهدف تهيئة اليمن (بل والمنطقة كلها) لمرحلة جديدة من مراحل تطور المصالح الأجنبية في هذه المنطقة وفي العالم ككل؟!.

Email