الثقافة والرمز

ت + ت - الحجم الطبيعي

تنطوي ثقافة الشعوب بلا استثناء على رموز ذات دلالات أسطورية أو قيمية أو وطنية أو إبداعية ذات حضور في الوجدان الشعبي. ومن شأن الرموز المشتركة أن تزيد من وحدة الثقافة والحس المشترك بين أفراد الشعب. لا سيما إذا ارتبطت هذه الرموز بطقوس دورية.

لن أتحدث في هذه العجالة عن تنوع الرموز الثقافية وأشكالها وتاريخها بل سأحصر همي بتحول بعض الناس في تاريخ الشعب إلى رموز وتحتفظ بهم الذاكرة الجمعية وتشعر بالكبرياء بالانتساب إليها. أو تتصارع حولها. وتجب الإشارة إلى أن أهم شرط لتحول الشخص رمزاً لدى الشعب أو المجتمع هو الإجماع. دون أن يمنع ذلك من أن تكون لبعض الجماعات والحركات رموزها الخاصة التي لا تقوم بوظيفة تكوين الثقافة المشتركة.

بل بالعكس إذا اختلف المجتمع حول نسبة الرمزية إلى شخص ما فإن ذلك قد يخلق شرخاً مجتمعياً، وبخاصة الرموز المرتبطة بالصراعات التاريخية حول الحكم أو السلطة والمستمرة في الحاضر. فلو أخذنا البطل الشعبي كيوسف العظمة برمزيته فإنه حاضر في الوجدان الشعبي، حاضر في القصيدة وكتب التاريخ، في التمثال الذي يتوسط ساحة من ساحات دمشق، وحائز على إجماع المجتمع السوري بل والشامي. ولو حللنا هذا الرمز لوجدناه ينطوي على حزمة من القيم السامية التي تجلها الثقافة الشعبية كالشهادة من أجل الوطن ضد العدو الخارجي، الشجاعة، الكرامة الوطنية، الزهد، إذاً عندما يتحول شخص إلى حالة رمزية فهذا دلالة على مجموع القيم التي يرمز إليها.

والشخص البطل لا يتحول إلى رمز بقرار شخصي منه أو من سلطة ما، كما حصل مع ستالين مثلاً الذي زرع تماثيله في كل مدن الاتحاد السوفييتي وعندما قضى أزيلت كل هذه التماثيل وصار رمزاً للشر الدكتاتوري.

والرموز الثقافية غالباً ما تتحول إلى مصدر تمتين العصبية الوطنية الجامعة فمحمود درويش مثلاً هو الآن بالنسبة للشعب الفلسطيني أحد أهم رموزه الوطنية الثقافية. حتى إن ضريحه في رام الله أصبح مكاناً للزيارات العفوية وصار اسمه اسماً لشارع ومدرسة ومركز ثقافي وجائزة وهكذا. تشير رمزية درويش إلى قيم الجمال الشعري وقيم الوطن المعبر عنه شعرياً وقيم الكفاح التي صارت قصيدة يرددها الشباب وتغنى.

غير إن المشكلة تظهر حين يجري الاختلاف داخل الجماعة حول الرموز ويصل حد الصراع حولها بين مؤكد لرموزها القيمية ونافٍ لها. هنا ينعكس التعصب الديني والإيديولوجي في الانحيازات إلى الرموز.

ففي الوقت الذي يمثل فيه المعري رمزاً للعقل والفلسفة عند جمهور ما وانتصب تمثاله عند قبره بحضور طه حسين آنذاك مثل بالنسبة إلى الأصوليين رمزاً للكفر والإلحاد وجرى تدمير تمثاله انطلاقاً من هذا.

بل إن الأخطر على وحدة الشعب الثقافية أن تتحول الرموز الدينية لأسباب طائفية إلى موضوع صراع نظري وعملي، وإن حصل أمر كهذا فإنما يدل على هشاشة المجتمع وهشاشة ثقافته.

لا شك إن تعدد الجماعات حتى داخل الوطن الواحد يفضي إلى تعدد رموزها الثقافية المختلفة، وهذا التعدد يقع في حقل الحرية والذي يتوجب الاعتراف والاحترام. فالتعدد الثقافي يظهر هنا بوصفه ثراءً ثقافياً وليس سبباً للصراعات. وليس من الحكمة المعرفية والوطنية أن تحول السياسة الرموز التاريخية إلى أدوات صراع، لا سيما وإن هذه الرموز لا علاقة لها بما هو مطلوب منها سياسياً. بل إن استحضار التاريخ الثقافي أو السياسي ليشارك في صراعات الحاضر وخلافاته ليدل على ما نسميه النكوص التاريخي والركود المجتمعي.

Email