مباركة هي الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مباركة هي الحياة لكنها مثقلة في التجارب والدروب الغامضة، مليئة بالمحطات والعقبات والآمال والآلام، وعند كل خاتمة درب بحلوها ومرها تطل علينا مفترقات قد تكون مصيرية، فنقف أمام نواص جديدة تفرض علينا أن نتخذ القرار الحاسم في حياتنا فإما أن نكون أو لا نكون، فإما أن ننهض أو نغرق، وإما أن نمضي قدماً أو نستكين، وتكثر المفارقات بين ما نسلك وبين ما كان يجب أن نسلكه، وبين ما نواجه وما نتوقع وما نتمنى.

وبقصيدة شهيرة للشاعر الأمريكي «روبرت فروست» بعنوان «الطريق الذي لم يُسلك»، استلهم فكرة الجرأة في اتخاذ القرار والتجريب الذي يثري حياة صاحبه، إذ اختار فروست لبطل قصيدته أن يسلك الطريق غير المستهلك المليء بالعشب ليكتشف بنفسه أفق الحياة وكنزها والغامض فيها، فقد اختار أن يفتح باباً لم يدخله الآخرون، فالتجريب ينبوع المعرفة لدى بني البشر وسرّ التجدد والتطور على مدى التاريخ، والتجارب الجديدة غنية بدروسها بغض النظر عن موضوعها أو عددها.

بوابة الحياة مليئة بالدروب والخيارات الملتبسة والاختبارات الصعبة تجعل حياتنا متعددة الأبعاد والاتجاهات والمِحَن، ومع كل قرار نسلكه تتجلى لنا حقائق بعضها مبهجة وأخرى صادمة، وتجتاحنا خيبات أمل أطفأت بريق ذكرى أصدقاء خذلونا كانت جمعتنا معهم دروب العمل والحياة إذ إنهم في زمن المنفعة أحاطوا بنا وحوّطونا وجمّلونا، ولكنهم سرعان ما فرّوا من حولنا وذابوا في الغياب وتركونا وحيدين في دروبنا الجديدة.

فرّوا عنّا ليس لسبب ما، سوى أننا لم نعد ضمن دائرة مصالحهم الضيقة بشيء، ولأنهم استعذبوا روتين الطرق المستهلكة والبراغماتية والانتهازية الضيقة وأدمنوا الصداقات المؤقتة، فسقطوا في خريفهم شر سقطة حيث لا حياة صادقة ولا صديق حيا.

ولعل أجمل ما في اختيار الدروب الجديدة ليس في ثراء آفاقها وتجربتها فحسب، وإنما في تقييم تجربة الذات والعلاقات الاجتماعية الحقيقية المخلصة وتمييزها عن المزيفة الملوّثة بالزبد.

المفارقات في الحياة لا يمكن أن يدركها إلا من تجرأ على ذاته واتخذ القرار الصعب ليدخل حياة مختلفة، وعند الحد الفاصل بين تجربة وأخرى، تعتمل في أذهاننا المفارقات وتكثر المقارنات فيقدح منها شرر الحقيقة، فمن أمسك ببريقها امتلك الحكمة، ومن أغفلها بقي صريع السذاجة والأنانية وخطئه المتكرر.

ومن امتلك الحكمة ألهم الآخرين المخلصين سرّ المحبة وزرع فيهم صدق الحنين بدون مقصد أو مراد.

وذوو الحكمة يتميزون بالعطاء الإنساني بلا حدود، فيستديم الأثر والتأثير على من حولهم، ليس كحدث مؤقت أو مشروع مرحلي، وإنما فكرة حيّة لا تموت تعيش في بيئة الوفاء واحترام إرث المنجزات لمن زرع القِيَم فينا، فيعمّر الموظف مؤسسته، وتعمر المؤسسة الوطن، ولهذا فإن الحكمة بسلوك أصحابها ومواقفهم تتجلى بأثرهم الطيب ودورهم الريادي ومنجزاتهم الكبيرة، فيستحقون التقدير والاحترام حتى عند الشرفاء من خصومهم.

رصيد الإنسان في حياته ليس فيما يظهره الناس حوله كل صباح من حب ومودّة على طاولة الاجتماعات أو عند طلبٍ أو حاجة، وإنما رصيده الأبقى فيما يفتقدونه أصحابه ومعارفه في أعماق أنفسهم إذا غاب عنهم وغادرهم، فأصابهم ليس بالحزن العابر، أو الشوق المؤقت، بل بالوحدة والبؤس والقلق والفقدان.

وكأنه بغيابه قد أضاع مجدافهم وبوصلتهم وهم في عباب البحر، أو أصابهم باليتم، فكيف لا، وقد استطاع الحكيم وعلى الرغم من غيابه أن يحتل مكانة اجتماعية وإنسانية وإدارية مرموقة بيننا، وقد بثّ ببساطة من حولنا طاقاته الإيجابية دون تصنُّع أو زيف، وتميّز بقدرة تحفيزية كبيرة أشبه ما تكون بانتشار وتتابع دوائر الموج واتساعها في بحر الحياة.

وهنا، إذا يمكننا أن نعتبر أن غياب صديق أو رب بيت أو عمل أحببناه هو طريق جديد واختبار لنا، كما هو طريق جديد له.

فننهل من إرثه الحي ونحصد قيم النجاح التي تقوم على التواضع، وروح التفاؤل، والنزاهة في العمل، واحترام الآخرين والاهتمام بشؤونهم الوظيفية والإنسانية، وانتهاج الشفافية في التعامل بأن نكون مركزا على مسافة واحدة من كل الأطراف، يقيسنا العمل والانتاج والابتكار. كرَمُ الحياة أن نحياها بصدق فتباركنا ونباركها ونخوض غمارها وتجاربها.

وحيثما يوجد الصدق يزدهر الإخلاص ويكبر الحب بين الناس، حينها يُزهِر الوفاء بأجمل ما في الحياة، يُزهِر بأناس شاكرين أينما وُجِدوا وكيفما كانوا، وكما قال صفي الدين الحلي في وصف الحلم والوفاء: «لا يَحسُنُ الحلم إلا في مواطنِهِ ... ولا يليق الوفاء إلا لمن شكرا». ومن قبله قال أبوالطيب المتنبي: «إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ ... وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا».

 

Email