أدركوهم قبل أن يهاجروا

ت + ت - الحجم الطبيعي

«أنا أعشق التدريس والتعليم، وارتباطي بهما مثل ارتباطي بالماء والهواء، فهي المهنة التي كرست لها حياتي، كما أعشق التحديات الفكرية والاجتماعية والإنسانية التي أواجهها كل يوم مع الصغار».

بهذه الكلمات لخصت المدرسة الأميركية «نانسي أتويل» سر فوزها بجائزة أفضل معلم على مستوى العالم، التي تسلمتها الأسبوع الماضي من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والبالغة قيمتها مليون دولار أميركي، مقدمة من مؤسسة فاركي العالمية.

عشق أي مهنة هو سر الإبداع والتميز فيها، وهو أيضاً سر البقاء في هذه المهنة، مهما كانت الظروف المحيطة بمن يعمل فيها، وإن كانت بيئة العمل والشروط التي يجب أن تتوفر في هذه البيئة مقومات أساسية أيضاً للبقاء والاستمرار في المهنة. نقول هذا بمناسبة الإحصاءات التي نشرت، نقلاً عن وزارة التربية والتعليم في الدولة، حول تزايد نسبة الاستقالات في صفوف المعلمين في المدارس الحكومية، حيث بلغت خلال الفصل الأول من العام الدراسي الحالي 319 استقالة.

وأبرز أسباب هذه الاستقالات، وفقاً لما هو مسجل في النظام الخاص بالموارد البشرية، الحصول على وظائف أخرى ذات مزايا أفضل، والرغبة في التقاعد بعد 20 سنة من الخدمة، إضافة إلى الأسباب الصحية. كما أظهرت الإحصاءات أن نسبة المواطنين أكثر من نصف عدد المستقيلين، بعدد بلغ 182 مستقيلًا، وتصدرت الإناث قائمة الاستقالات بما مجموعه 178 استقالة، مقابل 4 استقالات فقط للذكور.

تسرُّب المواطنين من سلك التدريس يدق ناقوس خطر يجب أن يتنبه له الجميع، وأولهم المعلمون أنفسهم، الذين عليهم أن يتمسكوا بمهنتهم، مهما كانت الإغراءات التي يتعرضون لها خارج الميدان، ومهما كانت الضغوط التي يتعرضون لها داخل الميدان، وهي ضغوط نعرف أنها كبيرة، تبدأ بالجهد الذهني والبدني الذي يبذلونه، ولا تنتهي بضآلة المقابل المادي الذي يتقاضونه مقابل هذا الجهد، في ضوء الرسالة التي يحملونها، والتي جعلت أمير الشعراء «أحمد شوقي» يرفعهم إلى مرتبة الرسل في بيته الشهير؛ «قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا»، الذي ربما يكفي لإرضاء غرور المعلمين، لكنه لا يكفي للاحتفاظ بهم في هذه المهنة واستمرارهم فيها.

لا شك أن وزارة التربية والتعليم تبذل جهوداً كبيرة لتوطين مهنة التدريس، لكن هذه الجهود لم تنعكس بشكل إيجابي على نسب المعلمين المواطنين في مراحل التعليم المختلفة، بدليل الإحصاءات التي مصدرها الوزارة نفسها، الأمر الذي يدعونا إلى طرح الأسئلة عن أسباب عزوف المواطنين عن الالتحاق بهذه المهنة، والبحث عن إجابات وحلول لها.

في الدراسة التي قدمها الدكتور أحمد حسين الصغير، أستاذ التربية في جامعة الشارقة، إلى مؤتمر التعليم الخامس الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات السياسية والبحوث الاستراتيجية العام الماضي، الكثير من إجابات هذه الأسئلة، فقد كشفت الدراسة عن 30 عائقاً أدت إلى عزوف المواطنين الذكور، بصفة خاصة، عن الالتحاق بمهنة التدريس، وقدمت 12 مقترحاً لعلاج هذه الظاهرة.

الدراسة أظهرت أن الجهود التي تبذلها الدولة في مجال توطين التعليم الحكومي نجحت في توطين المعلمات الإناث إلى حد معقول، إذ وصلت نسبة المعلمات المواطنات عام 2014/2013 إلى 65 % تقريباً من المجموع الكلي للمعلمات العاملات في مدارس الوزارة، لكنها فشلت في توطين المعلمين الذكور، إذ وصلت نسبتهم في العام نفسه إلى 11.27 % من إجمالي عدد المعلمين الذكور العاملين في مدارس الوزارة.

هذه المعوقات تنقسم إلى ثلاثة أنواع؛ اجتماعية، واقتصادية، وتعليمية. من المعوقات الاجتماعية التي تحدثت عنها الدراسة أن المستقبل الوظيفي للمعلم في المجتمع محدود مقارنة بالمهن الأخرى. ومنها كثرة المتاعب المهنية، وإهمال المعلم، وعدم تكريمه أو الاعتراف بإنجازاته في المجتمع، وقلة الخدمات الاجتماعية والصحية المخصصة للمعلم.

ومن المعوقات الاقتصادية تدني رواتب المعلمين مقارنة برواتب المهن الأخرى، وعدم توفر نظام منصف لتقاعد العاملين في مهنة التعليم، ومحدودية الترقية فيها مقارنة بالمهن الأخرى، وعدم استطاعة المعلمين الوفاء بالالتزامات المادية والمعيشية لأسرهم، وعدم وجود نظام واضح ومنصف لحوافز المعلمين.

ومن المعوقات التعليمية كثرة الأعمال اليومية والأعباء التي تثقل كواهل المعلمين، وبذل المعلم جهوداً مضنية مقارنة بالمهن الأخرى، وعدم وجود تشريعات تحمي المعلم، والبيئة المدرسية المحبطة وغير الجاذبة أو المشجعة على العمل.

القضاء على هذه المعوقات، في رأينا، هو الكفيل بالحد من تنامي حركة الاستقالات بين المعلمين المواطنين، وهو الحل إذا أردنا توطين هذه المهنة وزيادة عدد العاملين فيها. وهي مهمة يجب أن نضطلع جميعاً بها ونحارب من أجلها، فلا نترك وزارة التربية والتعليم تحارب وحدها، لأن «الاستثمار في التعليم هو الأفضل والأجدى» مثلما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، «كونه يلامس حاجات الشباب في التعليم وبناء المستقبل القائم على العلم والمعرفة والابتكار»، ولأن «الاستثمار في التعليم هو رهاننا الحقيقي في هذه الفترة من الزمن» مثلما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، «كي لا تعاني الأجيال القادمة مما عانى منه الآباء والأجداد قبل 50 عاماً». المعلمون الذين رفعهم بيت أمير الشعراء الشهير إلى مرتبة الرسل على وشك الهجرة من ميدان التعليم، فأدركوهم قبل أن يهاجروا ويتركوا هذه الرسالة العظيمة إلى ميادين أخرى أقلّ جهداً وأكثر عائداً.

Email