روح عفوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أيام في إحدى المناسبات المزدحمة التي تكثر هذه الأيام على كورنيش أبوظبي التقيت بالعديد من المقيمين والزوار من مختلف الجنسيات، وفي مثل هذه المناسبات تكثر المجاملات ويبدأ الحديث عن جمال المدينة وأحوال الجو الرائع، ويطلق كل واحد موجات التواصل بالحديث عن طبيعة عمله، ثم يبدأ بالاستعراض بما لديه من معرفة هائلة في تخصصه وخدمات مؤسسته التي يعمل بها، ثم بعد قليل وعندما تنكسر الحواجز يبدأ الاستعراض بخفة الدم وخصوصاً إذا كانت المرأة حاضرة في مثل هذه المجالس.

وتتصاعد محاولات إبراز مهارة الكوميديا الاجتماعية لدى الشباب إذا كانت إحداهن وحيدة بلا رفيق، وقد اعتدت على مثل هذه الأجواء ذلك، وإن كنت أحياناً كثيرة أنزلق إلى هذا المطب، فتارة أنجح، وتارة أخفق بسقوط مدوٍّ يكون دمي ثقيلاً وبطلاً مسرحياً في كوميديا سوداء عنوانها «شر البلية ما يضحك»، لاسيما إن شعرت أن حس الفكاهة لدي عجز عن دغدغة ثقافة الآخر، وغالباً ما أواجه هذا الإحساس مع شعوب شرق آسيا وبعض الأوروبيين.

هذه المرة كان للتفاعل الاجتماعي نكهة خاصة، فقد كنا رهطاً نتكون من مختلف الجنسيات إذ كنت العربي الوحيد بينهم نتناول المأكولات خفيفة الوزن كثيرة السعرات.

كنا تسعة أشخاص، وغالبا ما تفرز الأعداد الفردية ضحية تكون مصدراً للتندر والنكتة الجماعية، وتبدأ النكتة والنكتة المضادة التي لا تخلو من السخرية، ويتحول اللقاء من استعراض الخبرات التخصصية والمهنية إلى إظهار روح النكتة وفتل العضلات الاجتماعية، فتنكسر الحواجز ويبدأ الضحك بكل أشكاله المفرط، والتهكمي وحتى المبكي والمؤذي أحياناً.

ولكن لهذه المرة نكهة خاصة، حيث كان من بين الحضور امرأة ورجل ليسا على معرفة مسبقة، الأولى في أواخر العشرينيات من عمرها سمينة ومنتفخة لافتة للنظر، والآخر في منتصف الثلاثينيات قصير القامة يكاد لا يظهر إلا إذا علا صوته ورفع رأسه الأصلع اللامع. وكلاهما ذو منصب إداري رفيع في مؤسسته حسبما تشير بطاقتاهما التعريفية.

وفي مثل هذه الحالات ومن باب الذكاء والكياسة والاحترام أن لا يتم الحديث عن تجارب البعض الناجحة مع برامج الحمية وإنجازات تخفيف الوزن، أو مهارات كرة السلة التي قد يتمتع بها أحد الحضور وتميزه بطوله الذي يساعده على التسديد، وكأنها تبدو إهانة واستهزاء ممن لا تتوافر فيهم الرشاقة أو طول القامة.

المفاجأة كانت لافتة للانتباه، إذ بعد دقائق معدودة من كسر المجال الاجتماعي الشخصي بين الحاضرين، تبين أن المرأة والرجل تمتعا بروح دعابة رفيعة المستوى، فقد بدأت المرأة بالحديث الساخر على أهمية أن تكون سميناً في بلادها حيث الأعاصير تقلع وتحمل كل ما هو خفيف، لذا حالفها الحظ أكثر من مرة، بل إن سمنتها أنقذتها من أحد حوادث السير حيث لعبت طبقات الدهون الزائدة كمضادت واقية من الصدمات، في حين تكسر الكثير من النحاف، وكان أكثرهم تكسراً الجالس بجانبها.

وكذلك تحدث القصير عن مزاياه، وأنها مزايا لا يمكن أن يدركها إلا هو، وهمس في أذني أن المرأة يستهويها قصيرو القامة وأصحاب الرؤوس الصلعاء البراقة، لأن المرأة دائما تبحث عن التميز. وقال: إن تأثيري مضاعف لأني قصير وأصلع، ونظر إلى إحداهن بمكر ودهاء وابتسم وأومأ رأسه بالتحية.

وبالفعل، فقد أضاف هذان الشخصان جواً من البهجة والمرح على اللقاء العفوي، واستعدت التحليل السيكولوجي بأن معظم أصحاب الأوزان الثقيلة وقصار القامة خفيفو الظل ولهم نكهات خاصة تضفي السعادة على الأمكنة التي يكونون فيها، ويعزى ذلك إلى الذكاء الذي يتمتعون به وقدرتهم الدفاعية في التمويه وتشتيت النظر بعيداً عن الكروش والأوداج المنتفخة والرؤوس الملساء اللامعة، وهي مهمة صعبة لا يتقنها إلا من آمن بأهميتها وممارستها ونجاحها في تعزيز التوازن النفسي والتصالح مع الذات.

 وبذلك قد وصلوا إلى مستوى التعايش الاجتماعي مع أوزانهم وقصر قامتهم بل إنهم تجاوزوا مرحلة الحرج إلى توظيف علاماتهم الفارقة كمادة للفكاهة ومتكأ لإظهار الثقة متبعين بذلك سياسة «الإظهار هو أفضل وسيلة للإخفاء» وأن تكون مختلفاً متصالحاً مع نفسك يعني التميز!!!.

 

Email