مُعاذ ورأس غليص

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يستهوني مسلسل ما لمتابعته - بعد أن رميت طوبة المسلسلات العربية منذ زمن وغسلت يدي منها-، كما فعل مسلسل صحراء الأردن البدوي «رأس غليص»، فقد ظلت أمي، حفظها الله، تسرد عليّ أحداثه كل يوم، وتناديني لأُشاركها المتابعة، وأنا أقول لها: دعكِ منه يا أمي هذه كلها «خراريف» لا ترهقي أعصابك.

أمي مقتنعة تماماً بأن ما تراه على الشاشة حقيقي، وتسألني كل مرة ذات السؤال الأبيض: يعني هذا صدق أمي؟ ولطالما نفيت لها هذه الخزعبلات ولكن لا فائدة، فأمهاتنا طيبات.

مع كل هذه السادية في القتل والدمار وإشاعة الرعب في قلوب العوام، يقول غليص، وقد شَيّخ نفسه على حفنة قطاع طرق ومرتزقة جمعهم حوله، أنه لا يخاف إلا الله فقط!

ومع ذلك لا دليل على مخافة الله، فشعائر الإسلام مُغَيّبة تماماً، يقوم هذا الغليص بانتقاء العشائر الضعيفة ونهبها وقتلها، دون أي التزام بأي عهد أو عُرف أو تقاليد قبلية موروثة، فتحمل رياح الخوف سيرته بين القبائل فتهابه قبل لقائه، ما زلت أذكر ما دار في خلدي حينها وأنا أرى سلسلة الخسة والكذب وخلف الوعود وخيانة الأمانة: عالمنا مؤهل لغليص آخر.

وفكرت أنه لو تمت ترجمته للغة أخرى فسوف يلقى رواجاً هائلاً!

كان ذلك قبل ظهور كفرة القرن الواحد والعشرين على سطح الفضاء الدولي بقليل.

ظهور داعش على أرض واقع العرب العجيب تطبيق عملي يُغني عن أَي ترجمة وخصوصاً للغة الحيوان.

نقول ونردد، إننا نحن العرب بالذات ومن دون الأمم لا نتعلم من دروس التاريخ، لنتعلم من المسلسلات إذاً، أظن أنها هي أيضاً تَشْمَت بنا.

نحن شعوب عاطفية، لسنا وحدنا فقط، العالم مليء بالعاطفيين، ممن يمرقون عن منهج السنة والجماعة مصدقين حفنة حروف ملوثة، فينقلبوا من الخوارج.

معاذ الكساسبة حُرق حياً أمام العالم، على يد لصوص دين ودنيا يُسَمون أنفسهم دولة، الدولة لها كيان، أبسط سماته أن يكون أفرادها معلومي الهوية إسماً وصورة، وليسوا كومبارس ملثمين كالنساء.

تعجز الكلمات وصف هذه الجريمة.

الغريب في الموضوع أننا كلنا نكرر الكلام نفسه ، بالحسبة والتوقعات نفسها والتحليلات نفسها، ولكن دائماً تأتي النتيجة مخالفة لكل الاجتهادات.

كلنا يعرف من صنع داعش، ثم يأتي العالم ليقول لنا هيا نتحالف لنقضي على هذه الطفلة الجديدة النزقة، والتي كانت في يوم من الأيام حشرة ضعيفة، سقتها الأيدي الظالمة، أطعمتها وغذتها بالحرام، حتى غدت دبّوراً مسنناً حقوداً قاتلاً، تدك يمنة ويسرة لبناء عش لها، ثم يقال لنا إن الدبابير الآن قد تَخُمت وسمنت وكبر حجمها ولا بد من القضاء عليها، ولكن ذلك لن يكون بسهولة وسيستغرق سنوات! العالم لم يكذب لأن حساب عدد السنين يقرره وفقاً لمصالحه الضمنية المعلنة وغير المعلنة.

البانوراما التصويرية للجريمة التي تم بثها، ما هي إلا تطبيق عملي للإعلام الداعشي الجديد برؤية عصرية، موجهة للقلوب قبل العقول، وهو الهدف، وبرؤية دينية مبتدعة، بالافتراء على أي نص قرآني، والبهت على دين الله وسنة رسوله النابذة لأي تطرف وترويع وقتل، طبعاً مرجعيتهم المعوجة هي كتب الفتنة ومواويل أهل الكذب والأثر السيئ خاصتهم أسياد الأقطاب المأفونة.

حُرق معاذ، غادر الدنيا لجنّةِ ربٍ كريم بإذن الله، وستحرق الدنيا من حرقه.

سأرد على سؤال أمي البريء صاحبة القلب النقي حين تسألني الآن السؤال ذاته في كل مره: يعني هذا صدق أمي؟!

سأُجيبها: نعم يا حبيبتي صدق، أنتِ على حق.

 

Email