هل نواجه أنفسنا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن هدأت العاصفة التي أثارها الحادث الإرهابي الذي وقع في فرنسا ضد صحيفة «شارلي إيبدو»، يظل هناك العديد من الأسئلة والقضايا الجوهرية تتجاوز الحدث، الذي لا يعدو كونه حادثاً رمزياً لأزمة أبعد وأعمق، لا تقتصر على إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب أو بين ثقافتين متناقضتين ستقود آجلاً أو عاجلاً إلى صدام أوسع وأشمل.

وتتمحور تلك القضايا حول كيفية مواجهاتنا كمجتمعات عربية وإسلاميه للتطرف الديني، الذي ما زال يُفشل كل مشاريع التحديث والتقدم نحو الدولة المدنية.

ولكى تتضح الصورة، علينا تأمل بعض ردود الأفعال – إن لم يكن أغلبها - التي سادت أوساط الرأي العام، وأظهرت ليس فقط الفجوة الثقافية المعروفة بين العالمين الشرقي والغربي، ولكن وبنفس القدر عدم الرغبة في مصارحة أنفسنا بأن لدينا مشكلة حقيقية، بغض النظر عن موقفنا من الغرب رفضاً أو قبولاً.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، اختزلت هذه الردود والآراء الأمر وراحت تبحث عن مبررات وذرائع بعد إدانتها اللفظية أو النمطية للإرهاب، لتفسير الحادث مثل إلقاء اللوم على الصحيفة الفرنسية لتطاولها على الرموز الدينية الإسلامية (رغم أن هذه الصحيفة تحديداً معروفة بسخريتها اللاذعة لكل ما تعتبره تطرفاً سواء انتمى إلى المسيحية أو اليهودية أو الإسلام)، أو الحديث عن معاناة هؤلاء المهاجرين في المجتمعات الغربية من النواحي الاجتماعية والاقتصادية وشعورهم بالتهميش، وبالتالي تكون النتيجة هي التطرف والعنف.

وكأن وجهة النظر هذه تتجاهل حجم العنف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية في أوطانها، والذي بات أغلبه موجهاً ضد أبناء نفس ديانتها أيضاً.

وهناك آراء ذهبت أبعد من ذلك متبنية نظرية المؤامرة، لتشير إلى دور خفي لأجهزة مخابرات (لم تحددها) في افتعال هذا الحادث، بينما تعالت أصوات أخرى متهمة الغرب بتوفير الملاذ الآمن للإرهابيين ومنحهم جنسيات دوله، وبالتالي فإن ما حدث لا يعدو كونه عقاباً على ما اقترفته هذه الدول في السابق. وأخيراً فقد اكتفى البعض بالقول إن المتطرفين يشكلون قلة من المسلمين لا يفهمون صحيح الدين، أو يفسرون بعض نصوصه بصورة خاطئة لتنتهي الجملة عند هذا الحد!

فماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ببساطة أن الكثيرين – مهما بلغت درجة وجاهة آرائهم أو حملت بعض أوجه الصحة – ما زالوا لا يركزون بشكل كافٍ على طبيعة المواجهة الشاملة لأخطر ظاهرة تعاني منها منطقتنا، وهي الإرهاب المقترن بالأيديولوجية المغلفة بالدين، بعيداً عن الاهتمام الموسمي أو اللحظي بها الذي لا يثار ويتجدد إلا عند وقوع كل حادث إرهابي، ثم لا شيء بعد ذلك! أو أنهم ارتاحوا لإلقاء العبء على الأجهزة الأمنية للدولة، وهو أمر على أهميته بل ومهما بلغت درجة كفاءته لن يكفي وحده للتصدي لهذه الظاهرة فأكبر الدول لا تقوى على ذلك.

لا بد من الاعتراف بأن هناك تقصيراً في المواجهة الفكرية للتطرف الديني، وأن كثيراً من الملفات التي تفتح في هذا الصدد لا تلبث أن تغلق سريعاً دون حسم، وأن دور النخبة المثقفة ما زال ضعيفاً، وبالمثل المؤسسات المدنية والدينية وفي مقدمتها الأزهر، أما الأحزاب السياسية فهي غائبة أصلاً عن كل القضايا الجوهرية التي يعاني منها المجتمع.

فليس مهما أن ندين غيرنا وهو هنا الغرب، فهذا الأخير الذي بات يمثل الحضارة المعاصرة بلا منازع، قد استقر وحقق إنجازات هائلة، ولن تعود به عجلة الزمن إلى الوراء ولم يعد يعاني من مثل هذه الظواهر بعد أن وصل إلى صيغة توافقية لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة (وليس إنكار الدين أو مصادرة حق الاعتقاد والإيمان كما قد يشاع خطأ).

وهو ما اصطلح على تسميته بـ«فصل الكنيسة عن الدولة»، وكانت هذه المحطة تحديداً هي حجر الزاوية في الانتقال من العصور الوسطى التي مورس فيها كل أنواع القهر والاستبداد، إلى الدولة المدنية الحديثة، وما تلازم معها من إقرار وكفالة الحريات بجميع مستوياتها، والإعلاء من قيمة الفرد، بل وربما لخصت نقطة التحول هذه قصة الحضارة الحديثة كلها.

فقد كان هناك تطرف واستبداد في تطبيق التعاليم المسيحية (بلغة اليوم أصولية مسيحية)، وكانت الكنيسة أو رجال الدين في ذلك الزمان هم حراسها، وباسمها ارتكبت أبشع الجرائم من خلال ما عرف بمحاكم التفتيش، التي لم تصادر فقط حرية الفكر والاعتقاد والإبداع، وإنما صادرت حياة كل من يجرؤ على التفكير، وحرمت تداول كتب الفلسفة والعلم باعتبارها هرطقة.

وهذه الممارسات هي المعادل لمنهج «التكفير» الحالي الذي تتبناه جماعات الإرهاب من «داعش» إلى «القاعدة».

ليس المقصود من هذه المقارنة استنساخ التجربة، لأن التجارب التاريخية لا تستنسخ أو تتكرر بحذافيرها، وإنما التأكيد على أن ما تمر به مجتمعاتنا ليس استثنائياً في تاريخ الأمم والشعوب، وأن مواجهة التطرف وتجديد الخطاب الديني ليست من الأمور المستحيلة، ولكن يجب أن نمتلك الإرادة والجدية للفعل، لا لمجرد الأحاديث المكررة عن إدانة الإرهاب لنعفي أنفسنا من المسؤولية.

 

Email