الدم والزهور في ذكرى الثورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن تخرج في تظاهرة للتعبير عن مطالبك سلمياً، فهذا أمر طبيعي للغاية، خاصة في بلد يزعم أنه في طريق التحول إلى الديمقراطية، بعد موجتين ثوريتين في 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وغير الطبيعي وغير المنطقي أن تخرج في تظاهرة ولا تعود منها إلى أهلك وأسرتك إلا جثماناً هامداً في كفن، وأن تكون مشاركتك في هذه التظاهرة نهاية لحياتك وإسكات لصوتك إلى الأبد.

هذا ما حدث مع شيماء الصباغ، تلك الفتاة القيادية في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، التي خرجت في تظاهرة محدودة وسلمية، لتضع باقة ورد على النصب التذكاري لشهداء الثورة في ميدان التحرير.

لم تكن شيماء تريد النزول في هذا اليوم، لأنها كانت ترى أن الأحزاب والقوى السياسية والثورية لم يفعلوا شيئاً إزاء الجماهير والمواطنين، ولم يقوموا بالجهد الضروري واللازم لشرح أفكارهم ورؤيتهم، ولكنها في النهاية اختارت أن تكرم الشهداء بوضع باقة زهور على النصب المقام لهم في ميدان التحرير، وذلك أضعف الإيمان.

قتل شيماء الصباغ وفق الظروف والملابسات، التي رافقته وكشف هذه الملابسات، يحمل أكثر من دلالة.

أول هذه الدلالات أن تكريم شهداء الثورة في الحدود الدنيا، أي وضع الزهور على النصب التذكاري، لم يعد أمراً مطلوباً ومستحباً، بل أصبح يدخل في عداد الأفعال المؤثمة والمجرمة والممنوعة، فالمطلوب نسيان هؤلاء الشهداء، إن لم يكن نسيان أنه كانت ثورة من الأصل، تغييب ذكرى الشهداء والثورة يبدو أنه المعنى الأول المراد طمسه وتغطيته.

أما الدلالة الثانية فتتمثل في أن حق التظاهر السلمي، ذلك الحق الذي اكتسبه المصريون من موجاتهم الثورية في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وأسقطوا به نظامين متتابعين؛ نظام الاستبداد والفساد السابق على الثورة، ونظام الإخوان الديني الطائفي، لم يعد مستقراً ومسلماً به.

بل يتم تغييره بالقانون تارة وبالعنف تارة أخرى، وأصبح الخلط متعمداً بين حق التظاهر السلمي للتعبير عن المطالب، وبين التظاهر العنيف والمخرب والمدمر الذي تنظمه جماعة الإخوان، ويستهدف المنشآت العامة والخاصة والمواطنين والشرطة والجيش، وليس من السهل أن يتخلى المصريون عن حقوق اكتسبوها بدمائهم وجهدهم ولم يمنحها أحد لهم.

أما الدلالة الثالثة لقتل شيماء الصباغ، فتتعلق بحدود مسؤولية أجهزة الأمن والشرطة، من دون استباق لنتائج التحقيقات التي تجريها النيابة العامة، فمسؤولية هذه الأجهزة لا تقف عند حد حظر إقدامها على قتل المتظاهرين وإطلاق الخرطوش والرصاص عليهم.

بل يمتد أيضاً وبذات الدرجة من المسؤولية إلى حماية هؤلاء المتظاهرين السلميين من أي أخطار تراها أجهزة الأمن بمالها من أعين، وما لديها من معلومات ميدانية أو سابقة على التظاهر، وفي هذه الحالة فإن أجهزة الأمن والشرطة مسؤولة عن تأمين التظاهرات السلمية وضمان عدم تعرضها لإطلاق الرصاص والخرطوش من أي جهة.

وتتعلق الدلالة الرابعة بضرورة إصلاح أجهزة الأمن وهيئة الشرطة، وإعادة هيكلتها على أسس ومبادئ جديدة تتلاءم وحقبة ما بعد الثورة، أي أن تعمل أجهزة الشرطة والأمن وفق تأمين المواطن وضمان الالتزام بتنفيذ القانون من دون تجاوزه، والتدرج في استخدام القوة .

كما هو متعارف عليه دولياً، والتمييز بين التظاهرات السلمية والأخرى العنيفة واستخدام الوسائل المناسبة في الحالتين، ولا بد لجهاز الشرطة أن يتخلى عن العقلية القديمة، التي حكمت تعامله مع المواطنين قبل الثورة، وأن يسترشد بعقلية جديدة تلتزم بحقوق الإنسان واحترام المواطن وحمايته.

اختلط الدم والزهور في الذكرى الرابعة للثورة المصرية على نحو غريب، وفي مناخ أكثر غرابة، أسهم في خلقه عنف وإرهاب الإخوان وإصرارهم على التخريب والتدمير، ونيتهم المبيتة لتلطيخ سمعة نظام ما بعد 30 يونيو، وقاموا بمناسبة هذه الذكرى بزرع العبوات الناسفة في كل حدب وصوب.

وخرجت تظاهراتهم المحدودة بالسلاح في وجه المواطنين والشرطة والجيش، وذلك لإثبات حضورهم في المشهد، وهم بذلك يؤكدون من حيث لا يريدون غيابهم في الحال والاستقبال، فقد فقدوا ثقة المصرين ربما إلى أمد غير معلوم، ولن يغفر لهم المصريون تلك الجرائم، التي ارتكبوها في حق الدولة والمواطنين والمنشآت والمرافق التي طالتها أيديهم الآثمة.

لقد حول الإخوان ذكرى الثورة من مناسبة للاحتفاء بالثورة وتقييم مسيرتها ودراسة تحدياتها، إلى مناسبة للتخريب والتدمير والقتل، بهدف التوصل إلى أهداف باتت في حكم المستحيل. في هذا المناخ المشحون بالقتل والتدمير والتخريب تغيب الحقائق وتغيب الشفافية، وبين غياب الحقائق وغياب الشفافية تضيع المسؤولية، بل وتتوه أهداف الثورة المصرية العظيمة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

وتتفاقم معدلات الاحتقان والسخط، وتتقلص الثقة في المستقبل ما لم تتوفر إرادة سياسية ورؤية واضحة ،لتحقيق أهداف الثورة وإنصاف الشهداء والقصاص من قاتليهم، الذين ينعمون حتى الآن بالتخفي والاحتجاب عن الأعين، ولم تتوفر الأدلة حتى الآن لكي يتلقوا العقاب الذي يستحقونه، وهي على أي حال مسؤولية الدولة وأجهزتها التي يفترض أن تكفل الأمن لمواطنيها في جميع الظروف والأحوال، وأن تضمن تطبيق القانون والعدالة مهما كانت الظروف.

 

Email