عصر فاتن حمامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أنتمي بالتقريب، للجيل نفسه الذي تنتمي إليه فاتن حمامة. فهي تكبرني بنحو أربعة أعوام، ومن ثم، فقد عاصرت كثيراً من الأحداث التي عاصرتها، وانفعلت بكثير مما انفعلت به، مع فوارق مهمة بالطبع.

من ذلك، أنها بدأت الاشتراك في الحياة العامة مبكرة جداً، إذ بدأت التمثيل في التاسعة من عمرها (في فيلم يوم سعيد لمحمد عبد الوهاب)، في وقت لم يكن لدي فيه أي فكرة عن السينما أو محمد عبد الوهاب، ثم مثلت في الأربعينيات مع بعض من كبار الممثلين والمخرجين، قبل أن أعي أهمية أي من هؤلاء. وتألقت كأشهر ممثلة مصرية في الخمسينيات والستينيات..

بينما كنت أنا أقضى الجزء الأكبر من هذه الفترة في الدراسة في إنجلترا، ففاتني الكثير من هذه الأعمال. ولكن ظل اسم فاتن متألقاً، ويثير دائماً الحب والاحترام حتى توفيت منذ تسعة أيام (17 يناير)، فودعها محبوها الكثيرون بما يليق بها وتستحقه.

ما هو سر فاتن حمامة بالضبط؟ إنها طبعاً امرأة ذكية وموهوبة، جميلة ومرهفة الحس، تنتمى أسرتها إلى شريحة من الطبقة الوسطى من أهل المنصورة، ولكنها ليست من أعلى شرائح هذه الطبقة، فأبوها كان موظفاً بسيطاً في الحكومة.

المؤكد أنها منذ طفولتها كانت تتمتع بدرجة عالية من قوة الإرادة، فاستطاعت أن تفرض على الأسرة احترام قرارها باحتراف التمثيل، كما كان لديها دائماً من الاعتداء بالنفس والكبرياء، ما حماها من أي محاولة لكسر إرادتها أو لفرض أدوار عليها لا تريد تمثيلها.

كان اقتران هذا الحب العارم للتمثيل، وما لها من موهبة فيه، باحترامها التام للتقاليد المصرية. كافياً لأن تكسب فاتن حمامة قلوب المصريين، فلم يعد المصريون يتوقعون من أفلامها إلا الجودة المقترنة باحترام التقاليد، ولا يتوقعون أن يجدوا في أفلامها أي صورة من صور الابتذال، وهو توقع لم يخب أبداً.

عندما أعود إلى تذكر الأحوال في مصر في الخمسينيات ومعظم الستينيات، تعتريني الدهشة من عدة أشياء. إننا كلنا نعرف المنحنى الذي اتخذته السياسة المصرية منذ منتصف الستينيات في ميادين العلاقات الخارجية والعربية، والسياسة الاقتصادية والاجتماعية. ولكنى لا أملك إلا أن ألاحظ أيضاً ميلاً قوياً في ذلك الوقت للالتزام الأخلاقي، والنظر إلى اعتبارات الصالح العام بجدية أكبر مما ساد بعد ذلك.

إن مثل هذا التعميم، يحيطه بالطبع الكثير من الخطر، كما أن من الصعب جداً إثبات صحته، ولكنى أتكلم عن شعور لدي (أظن أن كثيرين يشاركونني فيه)، تكون من ملاحظة تصرفات السياسيين في ذلك الوقت (حتى وإن اختلفنا معهم)، بالمقارنة بالسياسيين في العقود التالية، وكذلك تصرفات المثقفين والكتاب وأساتذة الجامعات، وأيضاً سلوك الفنانين والفنانات، وفى مقدمهم فاتن حمامة.

كانت فاتن حمامة فنانة جادة قبل كل شيء. ولكن ألم تكن كذلك أيضاً فنانات أخريات، كتحية كاريوكا، سواء كممثلة أو حتى كراقصة. بالمقارنة بمعظم من جاء بعدها؟ وكذلك مخرج كزكي طليمات وفرقته الرائعة للمسرح الحديث، ويوسف شاهين(حتى لو اختلفنا مع اتجاهه)، بالإضافة إلى صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور في الشعر، وبليغ حمدي والطويل والموجي في الموسيقى...الخ؟

ما الذي نعنيه بالضبط بجدية الهدف والالتزام الأخلاقي عند هؤلاء جميعاً؟ لم يكن الربح هو الهدف، بل شيء آخر أفضل، ولم يكن الهدف هو المنصب الكبير، بل ما يمكن تحقيقه للوطن أو للمجتمع من ورائه، ولم تكن الشهرة مطلوبة في حد ذاتها، بل الشهرة مشروطة بإتقان الأداء. المدهش أن شيئاً مماثلاً يمكن ملاحظته في العالم ككل في ذلك الوقت..

وأن تطوراً مماثلاً لما حدث في مصر، حدث أيضاً في العالم منذ أواخر الستينيات. في السنوات الست التي قضيتها في الدراسة في إنجلترا (58-1964)، فاتني، كما ذكرت، أن أشاهد بعضاً من أجمل أفلام فاتن حمامة التي ظهرت في هذه الفترة، أسعدني الحظ بأن وجودى في إنجلترا في ذلك الوقت، سمح لي بمشاهدة بعض من أجمل ما أنتجته السينما في العالم. ولكنى أذكر أن فاتن حمامة، ابتداء من السبعينيات..

وإن استمر الناس يحملون لها تقديراً وحباً بالغين، قل عدد الأفلام التي مثلت فيها، (7 أفلام في السبعينيات ، وفيلمان في الثمانينات، وفيلم واحد في التسعينيات)، ولكن استمرت أفلامها تحمل السمة نفسها: الالتزام بالمستوى الفني العالي، والمستوى الخلقي العالي أيضاً.

 

Email