تأمل في مصطلح «الزمن الجميل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

شغل مفهوم «الزمن»، ولايزال، بال العلماء والفلاسفة منذ القدم ولم يغب كذلك عن بال شعراء كبار وضعوا حيرتهم فيه وتأملاتهم لسبر كنهه في قوالب شعرية عميقة الدلالات، كما ورد على لسان المتنبي والمعري. وقد نشر العديد من الكتب العلمية والفلسفية عن «الزمن» بالعديد من اللغات في العالم.

على المستوى العلمي الموضوعي انتقل مفهومنا للزمن من كونه انسياباً تلقائياً مطلقاً لا يتأثر بأية عوامل خارجية وفق فيزياء نيوتن التي سادت في الأوساط الأكاديمية مدة تقترب من قرنين ونصف القرن إلى مفهوم جديد في النظرية النسبية الخاصة لآينشتاين عام 1905 ثم في النظرية النسبية العامة عام 1916.

فقد أخضع الزمن في هاتين النظريتين للمفهوم النسبي الذي يعني أنه لا يمر بوتيرة واحدة على من هو في حالة السكون أو في حالة الحركة بسرعات كبيرة، كما أنه لا يمر بالوتيرة نفسها في مجال جاذبي عادي أو مجال جاذبي شديد جداً.

فالانسياب الزمني يتباطأ مع زيادة السرعات ويتوقف تماماً حين تبلغ سرعة الأجسام المتحركة سرعة الضوء، ويتوقف كذلك عن الانسياب في الثقوب السوداء، حيث الجاذبية من الشدة بمكان بحيث أن الضوء نفسه غير قادر على الإفلات منها.

ولكن إحساساتنا لا تتفق بالضرورة مع الحقائق الموضوعية عن الزمن، فنحن نتحسس مروره ببطء أحياناً وبسرعة أحياناً أخرى، حسب طبيعة الظرف الذي نمر به وهو ما يعرف بالزمن السايكولوجي. نشعر بمروره سريعاً حين نكون في حالة فرح وحبور وبطيئاً في حالات المعاناة والتألم والقلق.

إلا أن هناك مقاربة أخرى للزمن يستخدمها البعض حين يصفه بالجميل أحياناً وبالرديء أحياناً أخرى وهي تصنيفات غير نابعة من أحاسيس سايكولوجية، ولكنها نابعة من عذوبة أو مرارة التجربة الشخصية التي نمر بها. فليست هناك صعوبات تذكر لرصد ظاهرة التبرم من الحاضر وهمومه والحنين لطمأنينة الماضي لدى شرائح واسعة من المحبطين في العالم العربي..

فمصطلح «الزمن الجميل» الذي يُضفى على الحقبة التي احتضنت حدثاً معيناً أو شخصاً معيناً في الماضي يتردد كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي..

حيث نشهد كثرة من المشاركين في هذه المواقع ينشرون على صفحاتهم فيديو لأغنية قديمة أو لقطة من فيلم يظهر فيه مجموعة من الراحلين شكل حضورهم جزءاً من ثقافة تعايشنا معها وشهدناها حسياً، أو صورة لنجم غناء أو سينما كان له حضور في الماضي، ينشرونها مصحوبة بعبارة «من الزمن الجميل» في حنين إلى زمن تركناه وراء ظهورنا وابتعدنا كثيراً عنه.

لا شك أن الماضي يصبح جذاباً ويشتد الحنين إليه لدى البعض حين يصبح الذهن والجسد متعبين وتصبح القدرات المتراجعة بفعل التقدم في السن قاصرة عن التناغم مع حياة الحاضر ذات الإيقاعات السريعة، وما تطرحه من قضايا من الصعوبة تقبلها من قبلهم. الحنين للماضي تعبير عن عدم القناعة بالحاضر، فالزمن الجميل الذي نحن إليه هو ذاك الذي عشناه في مرحلة الطفولة ثم مرحلة الشباب والعنفوان والأحلام والطموح والخلو من المسؤوليات.

وبالمزيد من التأمل بمعنى الماضي الذي يشدنا الحنين إليه، نجد أنه لا يقتصر على ما حفلت به حياة الفرد من أحداث ومواقف، بل يتجاوز ذلك إلى ما استقر في ذاكرته من الخزين المعرفي والتراثي الذي يجمعه بآخرين، والذي يرجع إلى الجذور الثقافية التي نشأ وسطها وتشبع بها. وبكلمات أخرى، الماضي هو كل ما نملكه، فحقيبة الحاضر لا تضم سوى الماضي الذي انتهى باللحظة التي مرت لتوها، لأن الحاضر بالمعنى العلمي ليس غير اللحظة الزمنية التي تتحرك على مسار باتجاه واحد من الماضي نحو المستقبل.

ورغم أن ظاهرة الحنين للماضي شائعة في كل مكان من العالم، إلا أن حضورها أكثر شيوعاً لدى الشعوب التي تعاني من حالات عدم الاستقرار والافتقار للأمن، وبشكل خاص شعوب منطقة الشرق الأوسط التي تشهد حالات سيادة العنف الذي تسبب بمقتل مئات الآلاف وتشرد الملايين،..

وما ترتب على ذلك من معاناة على جميع المستويات أبرزها اللايقين حول القادم من الأيام، لا سيما وأن الآفاق لا تبشر بانفراج قريب للأزمات التي تسببت بهذه الرزايا، ولا يمكن تجاهل الماضي..

وذلك لصلته الوثيقة بالحاضر رغم أن هذه الصلة غير مادية سوى بوجودنا نحن الذين نحمله معنا. مصطلح «النوستالجيا» في اللغة اليونانية، وضع أصلاً كمسمى لحالة مرضية فيها الكثير من المعاناة أعراضها الاكتئاب الذي يعتري المريض من جراء حنينه لبيته وخوفه من عدم تمكنه من الرجوع إليه إلى الأبد، إلا أن استخدامه قد توسع ليشمل الحنين للماضي بسبب الحب الشديد لعصوره بأشخاصها وأحداثها.

حالة الحنين للماضي تتصف بها شعوب الشرق عموماً، أفراداً ومجتمعات، لأن في ذلك الماضي ما تفخر به وهو التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، لأن الحضارات القديمة بما احتوت حقائبها من أساطير وملاحم ومدونات أدبية ولوائح تشريعية وأديان ومعتقدات نشأت في الشرق وأصبحت ركائز أساسية في الثقافات ليس في الشرق وحده بل في العالم أجمع.

 

Email