السعودية: ماذا يعني انتقال السلطة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي


السعودية تعيش مرحلة مفصلية في تاريخها المعاصر. وتثبت للعالم عمق الاستقرار والنظام المؤسسي العميق للدولة. وتشهد انتقال السلطة بشكل سلس وسلمي. وربما تفاجأ العالم بهذه السرعة والسلاسة والهدوء في انتقال السلطة. وكان العالم يترقب ماذا سوف يحدث في الرياض فتأثيرات ما يحدث في العاصمة السعودية لن يقف عند حدودها, بل سيتأثر العالم كله بالتطورات داخل هذه البلد فهي صمام الأمان في امداد العالم بالطاقة. كما أن تحتضن الحرمين الشريفين وهذا يعطي لها دور اضافي واستراتيجي في العالم الاسلامي. وهي بلد مهم واحيانا يبدو غامض للخارج, وهذا ربما يعطي فرصة لتأويلات وسيناريوهات يتخليها مراقبون ومحللون من الخارج.

ويجهل كثيرون في الخارج أن ترتيبات الحكم وانتقال السلطة في السعودية ليست وليدة اجتهادت, بل هي مبنية على انظمة واعراف وتقاليد حمتها في كل مراحلها التاريخية. فهناك داخل الأسرة السعودية الحاكمة تقاليد راسخة من الاحترام والتعاضد والطاعة للملك في كل الأحوال. كما أن انشاء هئية البيعة يعتبر واحدة من القرارات المهمة والمصيرية في تاريخ الحكم السعودي.

الحكم في السعودية هي مؤسسة عمرها حوالي ثلاثة قرون وامتداد لتاريخ طويل من الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة. وهناك اعراف وتقاليد راسخة داخل هذه المؤسسة. واستمراريتها يعود الى نجاحها في التواصل مع مختلف فئات الشعب وحرص حكامها على وضع مصلحة الدولة فوق كل اعتبار. واقرار هيئة البعية هو نقلة نوعية لتطوير النظام من الاعراف والتقاليد الى الأنظمة والقوانين.


ورغم الخسارة الكبيرة للسعودية والعالم بغياب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله إلا أن انتقال السلطة بسلاسة وكذلك الوضوح والسرعة في قرارات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في التعيينات المهمة دلالة على عمق هذه التقاليد والخبرة الراسخة في البيت الحاكم. وهي القرارات التي اكتسبت تأييد هئية البيعة وكذلك تفاعل شعبي بالارتياح والتأييد.


ويتولى الحكم الملك سلمان وهو رجل دولة قيادي منذ أن كان يتولى أمارة الرياض. وهو الرجل الأقرب الى حكام السعودية السابقين ويلقبه البعض بالمستشار الشخصي لملوك السعودية وأمين سر العائلة. وكان يتولى ملفات داخلية وخارجية مهمة بنجاح. يساعده في ذلك ثقافته الواسعة وعلاقاته الدولية المتشعبة ويحظى بثقة واحترام دولي. ويعرف عن الأمير سلمان وفائه فهو الذي لازم الملك فهد رحمه الله طوال فترة مرضه, وهو نفسه الذي كان يوميا مع اخيه الراحل الملك عبدالله في فترة مرضه. كما أنه رافق شقيقيه الأمير سلطان والأمير نايف أولياء العهود الراحلين في فترة علاجهم.
 

ويحسب للملك سلمان قراراته التي رسخت قوة ومتانة البيت السعودي الحاكم. فقد  دعا الملك سلمان  لمبايعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد. كما أصدره أمره بتعيينه نائبا أول لرئيس مجلس الوزراء. كما اختار الملك سلمان الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد وتأييد اغلبية هئية البيعة لاختياره. وأمر الملك سلمان بتعيينه نائبا ثاينا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية. ومن يقرأ المفردات يفهم الفروقات بين اختيار وتعيين فهناك اختيار من الملك وموافقة من هئية البيعة ومن ثم أمر بالتعيين مبني على مرجعية هئية البيعة. وهذا ترسيخ لمفهوم الشرعية ومرجعية النظام. وهيئة البيعة خطوة تنظيمية مهمة كان الملك عبدالله اصدر قرارا بتشكيلها لتتولي مسؤولية اختيار أولياء العهود وتضمن انتقال السلطة بسلاسة وباتفاق ابناء المؤسس الملك عبدالعزيز.
 

وتحدد  25 مادة في نظام البيعة شكلاً دقيقاً لطريقة انتقال الحكم في المملكة، إذ أمر الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بتأسيسها في 20 أكتوبر 2006، ونص الأمر الملكي على جعل أعضائها من أبناء الملك عبدالعزيز وأحفادهم ومن ينص عليهم النظام، أو أحفاده في بعض الحالات التي يحددها النظام، إضافة إلى اثنين يعينهما الملك، أحدهما من أبنائه والآخر من أبناء ولي العهد، وتقوم عند وفاة الملك بالدعوة إلى مبايعة ولي العهد ملكاً على البلاد.


واستناد الملك سلمان في قراراته التي اصدرها فور توليه الحكم الى نظام هئية البيعة تعكس صور واضحة لفكر الملك سلمان في التزامه بتطبيق الانظمة التي حددتها هئية البيعة. ويقدم صورة لحاكم يرجع للنظام ويستند اليه في حين أنه هو ملك يملك القرار في موقع السلطة.


واختيار الملك سلمان للأمير مقرن كولي للعهد ونائبا أول لرئيس مجلس الوزراء هو اختيار متوقع فالامير مقرن كان وليا لولي العهد كما أنه أصغر الابناء الأحياء للملك المؤسس عبدالعزيز وهو رجل له خلفية عسكرية كطيار عسكري. وتولى مناصب قيادية أميرا لمدينة حائل وثم أميرا

لمنطقة المدينة المنورة. كما أنه تولى ملف الاستخبارات وثم مستشارا للملك عبدلله ومبعوثا خاصا له. ومن خلال هذه المناصب كان واضحا تهئية الأمير مقرن لتولي منصب ولاية العهد وكانت نجاحاته في هذه المناصب حافزا ليرشحه الملك سلمان وليا للعهد. 
القرار المهم والتي تعكس عمق الرؤية المستقبلة للملك سلمان هو ادخال الجيل الثاني في الحكم من خلال ترشيحه للامير محمد بن نايف وهو أول امير من الجيل الثاني يتولى منصب في القيادة العليا للدولة كولي لولي العهد. والأمير محمد بن نايف كسب احترام العالم من خلال نجاحه في موقعه كوزير للداخلية في محاربة الارهاب وقيادته الماهرة لوزارة الداخلية في كشف الخلايا الارهابية والتي كاد أن يذهب ضحية هو نفسه في محاولة اغتياله من ارهابيين في منزله في جدة.
 

وسيجل التاريخ للملك سلمان قراراته التي اتخذها بهذه الرؤية والسرعة والتي لاقت ارتياحا كبيرا في الشارع السعودي. واعجابا بالسلاسة ومتانة نظام هئية البيعة التي وضعت كصمام أمان لأي اجتهادات او خلافات داخلية.
أن التوجه لاعطاء الفرصة للجيل الثاني في الأسرة الحاكمة هو قرار بعيد النظر وذا رؤية واسعة ولذلك تعيين الأمير محمد بن نايف نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء وكذلك تعيين الأمير محمد بن سلمان رئيسا للديوان الملكي ووزيرا للدفاع وهو الذي عمل بالقرب من والده الملك سلمان

وكان مستشاره الخاص منذ أن كان أميرا للرياض وكذلك في وزراة الدفاع وهو الذي رافقه في رحلاته الخارجية واجتماعاته الداخلية والخارجية وهو الأمر الذي أكسبه خبرة وتجربة من مدرسة والده الملك سلمان.
تثبت السعودية قدرتها على الارتقاء دائما الى مستوى الحدث. ورغم المحيط الجغرافي من مشاكل وحروب داخلية إلا أنها تراهن وتنجح في صنع الاستقرار الداخلي والتركيز على تنمية الانسان وتطوير المؤسسات التنظيمية للحكم. وهذا التفكير العقلاني والواقعي الذي يميز القرار في السعودية. وهذا الذي يكسب الرياض احترام العالم ويجعلها دائما محط المتابعة ومكان الاعجاب.
 

Email