أسرة متماسكة.. مجتمع آمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

ستظل الأسرة هي المؤسسة التربوية الأهم في المجتمع والتي لا تغني عنها أو تحل محلها أو تقوم بوظائفها أية مؤسسة أخرى مهما كانت وأياً كانت، باعتبار أنها اللبنة الأولى، أو النواة التي تدور حولها كل المؤسسات التربوية، كما أنها المحضن الطبيعي للفرد الذي يتلقى من خلاله التجارب والانطباعات الأولى، وهي التجارب التي تدوم طويلاً، كما أنها تخط الخطوط الأولى في صفحات ذاكرة الفرد، وهي المدرسة التي يتعلم منها الفرد بالمحاكاة عبر القدوة والنموذج، بل إن الخبرات الأسرية تنفذ إلى عقله وفكره وتسكن فؤاده دون أن يسعى إلى ذلك أو يسعى أفراد الأسرة أنفسهم إلى ذلك، فالفرد نتاج أسرته رغماً عنه، ويتعلم ممن حوله دون أن يقصد أو يعي، لذا كان صلاح الأسرة هو العنوان العريض والمدخل الواسع لصلاح المجتمع. وما هو المجتمع؟

وكيف يتكون؟ ستجده في النهاية مجموعة من الأسر التي ترتبط فيما بينها بمنظومة قيمية وسلوكية تم التوافق عليها والعمل على تدعيمها، ومن شذ عنها ينظر إليه باعتباره خارجاً عن العرف العام أو يلقى الانتقاد ممن حوله.

ولذلك حظيت الأسرة بعناية كبيرة في الإسلام، ووضع دعائم الحفاظ عليها، وحافظ على مكانة المرأة، ووضع أسس التعامل بين الآباء بعضهم البعض ثم بينهم وبين الأبناء، كما وضع قوانين الميراث والحقوق والواجبات لكل فرد فيها.

والأسرة ليست شذرات متناثرة، لكنها كائن حي فاعل يتأثر بالمنظومة البيئية التي يعيش فيها ويؤثر فيها، لذا فإن قوة المجتمع تأتي من قوة الأسرة، وانهيار أكبر المجتمعات تقدماً وأقواها جاء من تفكك الأسرة، والتاريخ خير شاهد، لذلك سمي التفكك الأسري بالمرض الاجتماعي، بل إنه من أخطر الأمراض الاجتماعية، لأن مظاهره أو أعراضه لا تصيب شخصاً بعينه بل تتعدى ذلك إلى الآباء والأبناء، الذين سيكونون آباء في يوم ما، وتكون المحصلة النهائية مجتمع مشرذم ومقطع الأوصال.

وفي تقديري أن التفكك الأسري يسرى في جسد المجتمع كما يسري مرض السرطان في الجسد ببطء متربصاً به، كما أنك لا تدري أي أجزاء الجسد ستكون مسرحاً لعملياته، ثم ما يلبث أن يهاجم أعضاء جسده واحداً تلو الآخر، حتى يقعده ويجهز عليه تماماً دون أن يفلح معه دواء أو ينجع معه علاج، هكذا التفكك الأسري الذي تنتج عنه قائمة من العاهات الاجتماعية، ولن أكون مغالياً إذا قلت إذا أردت أن تبحث عن أصل أية ظاهرة سلبية في المجتمع فابحث عن الأسرة! وإذا أردت لها علاجاً فلتبدأ من الأسرة.

الأسرة التي اقتصر فيه دور الأب على التمويل المالي، وتلبية احتياجات أهل بيته مادياً دون أن يشاركهم أفكارهم، أو يتابع شؤونهم، أو يلبي احتياجاتهم النفسية، هل نستطيع القول إنه أدى دوره، وحافظ على كيان أسرته متماسكاً.

الأم التي تركت تربية الأبناء للخادمات، دون أن تقوم بدورها كاملاً في التوجيه وبث القيم والسلوك القويم عند أبنائها، هي بالضرورة تقاعست عن أداء دورها كحاضنة للأبناء، ومأوى يلجؤون إليه عندما تختلط عليهم الأمور أو تشكل أية مسألة، بما لذلك من تداعيات نفسية سيئة إذا لم يتم معالجتها قد تتحول إلى أمراض عضوية مزمنة يعجز العلاج بالعقاقير عن مواجهتها، فأمراض مثل القلق والاكتئاب والرهاب، أو التبول اللاإرادي عند الأطفال، أو النشاط الزائد، أو السلوك العدواني، أو التأخر الدراسي والهروب من المدرسة وكراهية المعلم، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن البيئة الأولى التي نشأ فيها الطفل وهي الأسرة وطبيعة العلاقة التي تجمع أعضاءها بعضهم ببعض.

كما أن التفكك الأسري بما يعنيه من الانفصال والتمزق والتشرذم والاضطراب لا يهدد البناء الاجتماعي فحسب بل يهدد الأمن الوطني للمجتمع بكامله، فالعنف اللفظي والمادي وارتكاب الجرائم والسلوك غير السوي في جزء كبير منه يعود إلى التنشئة الأسرية الخاطئة، والتي تراكمت تداعياتها عبر سنوات طويله، كما أن الأبناء الذين نشأوا وتربوا في بيئة لا تجتمع حتى على وجبات الطعام يصعب عليها أن تتفق على قيم واحدة ونمط سلوكي واحد، والبيت الذي يبدوا فيه الآباء وكأنهم أطراف نزال لا يمكن أن يخرج أبناء أصحاء نفسياً، ويكونون عرضه للاستهواء وتأثير الآخرين عليهم، وسلب إرادتهم والسير في ركابهم بحثاً عن حنان مفقود أو أماني ضائعة أو استقرار معدوم، وهؤلاء صيد ثمين لمعدومي الضمير من شياطين الإنس، وهنا تظهر علاقة الأمن الوطني بالترابط الأسري.

وإذا كنا نقول دائماً إن الأسرة هي عماد المجتمع فالمقصود بها الأسرة المتماسكة وليست الأسرة التي تحمل الاسم دون الرسم، كما أنها الأسرة التي تقوم بدورها في نقل الثقافة والقيم والمعايير الاجتماعية والخلقية إلى الأبناء من خلال عملية الضبط الاجتماعي، ويخطئ من يظن أن تأثير الأسرة يقتصر على مرحلة سنية محددة ثم بعد ذلك تلقى بالتبعة على كاهل مؤسسات أخرى بعيداً عنها، غير أن دور الأسرة متنامٍ يصحب الفرد من الطفولة إلى الرجولة مروراً بمرحلة الشباب، كما أنه دور متجدد.

بمعنى أن الأدوار التي يقوم بها الفرد تختلف من مرحلة إلى أخرى، فأبناء الأمس هم آباء اليوم الذين يجب أن يقوموا بدورهم في تأسيس أسرة قائمة على التوافق والتفاهم بين الوالدين، الذي ينعكس بدوره على سلوك الأبناء من خلال الرعاية والتوجيه والإقناع، وإيجاد مساحة أكبر من الفكر والاهتمام المشترك، عندئذ تكون الأسرة كما معناها آسرة لأفرادها وجامعة لهم، وعندئذ ينشأ بالفعل المجتمع الآمن.

Email