أنا محمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقف اثنان من الأشقياء في طريق حكيم القرية وقد أمسك أحدهما بعصفورٍ خلف ظهره، وكانا قد بيّتا النية على إحراجه أمام الناس عن طريق سؤاله عن العصفور إن كان ميتاً أم حيّاً، فبضغطة خفيفة كان الممسك به سيخمد أنفاسه لو قال إنّه حيّ، فسأله: إن كنتَ حكيماً حقاً فأخبرني عن حال العصفور الذي أحمل؟ فابتسم الحكيم وقال وهو يبتعد عنهما: «هو كما تريدانه أن يكون»!

نعم هو كما تريدانه أن يكون، فمن اشتد عوده على أخذ موقفٍ سلبيٍ منك لن يتغيّر بسهولة، ويكاد يستحيل التغيّر إن كان يُخالفك في المعتقد، فهو أمرٌ تمتلئ به صفحات التاريخ ولا ينفيه إلا من افتقد المصداقية مع نفسه، ومخالَفة المعتقد لدى الإنسان تحمل بين جنباتها استعداداً غير مشروط وغير باحثٍ عن الحقائق في الغالب لتصديق أي أكذوبةٍ أو منقصةٍ في مخالِفِه، ومن أراد المزيد فليقرأ عن أسباب الحروب الدينية وكيف جُيّشت الشعوب تحت دعاوى شيطنة المخالف وإنقاذ الأرض من إفساده وفساده، فتحت أضواء الشعارات البراقة تعمى الأبصار عن ملاحظة الحقائق الغائبة أو الاستنتاجات المغلوطة ولا يبقَ إلا الرضا التام بما يؤمن به وما يقوم به ذلك المـُغيَّب عن الحقيقة كما قال سبحانه وتعالى: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسِنونَ صُنعا».

قامت الدنيا ولا يبدو أنها ستقعد إلا بعد أن تجتث الكثير بعد إقدام إرهابيين بقتل 12 فرنسياً في مبنى صحيفة تشارلي ايبدو، وثار الرئيس الفرنسي ومعه وزير داخليته وقاما بتنظيم أكبر مسيرة من نوعها ربما منذ الثورة الفرنسية الشهيرة التي اندلعت عام 1789 وأسقطت النظام الملكي، لتنقذ هذه المسيرة شعبية فرانسوا أولاند المترنحة لتحقق له بعدها قفزة تاريخية مقدارها 21 نقطة لترتفع نسبة تأييده إلى 40%، ويصرّح إثرها في حفل بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس وكالة فرانس برس «إننا لا نهين أحداً عندما ندافع عن أفكارنا وعندما نؤكد حريتنا، بل على العكس، نحن نحترم كل الذين تتوجه أفكارنا إليهم لكي نتقاسمها»، نعم يا سادة «الذين تتوجّه أفكارنا إليهم» ثم ماذا ولماذا؟

«لكي نتقاسمها»، فالأفكار ذات مسار واحد فقط، فهو لم يقل «وأفكارهم إلينا» ولم يقل كأضعف الإيمان «لكي نناقشها» بل «نتقاسمها» في بيانٍ واضح على حرية التعبير عن الرأي التي صمّوا آذاننا بها، والموقف المقبول من الآخر «ونحن سامحنا الله» حتى نكون جزءاً من البشرية المرضي عنها!

حمل الملايين شعار «أنا شارلي» في ترجمةٍ حية لدعم حرية التعبير عن الرأي كما يزعمون، والرسالة لم تكن موجهة لكائنات من الفضاء، ولا لشعوب أوروبا أو أميركا أو حتى آسيا وأفريقيا، بل المقصود طائفة معينة دائماً ما يحاول الإعلام الغربي تصويرها كشيطانٍ مستكين ينتظر فرصة للانقضاض على بقية الأبرياء في العالم، وهذه الطائفة هي المسلمون، فعند كل حادثة إرهابية يكون طرفها مسيحي أو يهودي أو لا ديني لا يتم التطرق للمعتقد إطلاقاً.

بينما تختلف الآية تماماً إن كان من قام بها مسلم، إذ يُزّجّ باسم الإسلام بأكمله ومعتنقيه الذين يقاربون المليار والنصف في اختلاف وضيع لتلك المعايير التي يؤطَر بها من قام بالخطأ، لذا لم يكن غريباً أن يخرج روبرت مردوخ ليؤكد أن العملية الإرهابية في تشارلي ايبدو يجب أن يتحمل مسؤوليتها «كل المسلمين في الأرض»، طبعاً أتمنى من سيادته أن يحملنا أيضاً إثم إبادة هيروشيما وناجازاكي ومسؤولية مقتل 85 مليوناً خلال الحرب العالمية الثانية، و«تمون علينا» يا خواجه مردوخ!

في كل معتقد هناك غُلاة كانوا موجودين ويتواجدون حالياً وسيتواجدون مستقبلاً ومن يظن غير ذلك فهو يغالط نواميس الكون، وقد تعبنا ونحن نتبرأ ليل نهار من تلك الفرق الإرهابية التي تواجَد مثلها الكثير في التاريخ غير المسلم ويتواجد حالياً بمسميات براقة لكن الفعل هو نفسه، وكم كان غريباً أن تصف صحيفة كالنيويورك تايمز ما حدث في باريس بأنه «صدام حضارات» قبل أن تستدرك ذلك لاحقاً ويقول كاتب عمودها أناند جيريذاراداس بأن المقصود «ليس حرب حضارات» ولكن «حرب من أجل الحضارة»، يعني يريد يكحلها عماها، فالطرف الآخر معروف أنه العالم الإسلامي وباستدراكه هذا نفى حتى أن نكون جزءاً من الحضارة!

لسنا ضد حرية الرأي ولا حق الناس في التعبير ولكن تتوقف تلك الحرية عندما يُصاب الآخر بالحَوَل، وبدلاً من أن ينتقد فئة إرهابية أو متشدّدة «ننتقدها ونرفضها نحن قبله» نجده يقفز بعيداً ليشتم ويسخر من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج علينا كبرائهم ليطلبوا منا احترام هذه الحرية مما يدعونا للتساؤل: هل هم حقاً أصدقاء أولئك الذين يتعمدون الإساءة إلينا بشتم نبينا الكريم واختلاق الأكاذيب عليه؟ لماذا يندّدون بخطاب الكراهية وهم يصنعون بأيديهم وعن عمد بركان الكراهية بأكمله؟

لقد حوّلت فرنسا والغرب ومعها كثير من العرب إثر هذه الحادثة الإسلام إلى دين به الكثير من المآخذ الخفية التي لا بد من «تصحيحها» للخروج بإسلام يتناسب ومقاييس الغرب واشتراطاته، وتحوّل المسلمون من خلال آلاف البرامج الحوارية والنقاشية الغربي منها والشرقي إلى متهمين في حاجة لإثبات براءتهم والتي لا يبدو أن الطرف الآخر مستعد لتقبلها أصلاً، وكم كان مؤلماً وصائباً ما قاله وزير الخارجية الفنلندي اركي توميويا: «إذا سخرتَ من السّود فهيَ عُنصرية، وإذا سخرتَ من النساء فإنّها شوفينية، وإذا سخرتَ من اليهود فهيَ مُعاداةٌ للسّامية، أمّا إذا سخرتَ من الإسلام فتلكَ هيَ حُريةُ التعبير»! أنا لست المسلم الذي يريدونه بمقاييسهم بل مسلم كما أرادني المولى سبحانه، أنا ضد الإرهاب والبربرية ولكنني قبل ذلك ضد من يسيء لنبيي الكريم، أنا لست شارلي وأقولها بالفم «المليان» بل أنا محمد!

Email