الهوية الفردية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مازالت العرب منشغلة بمسألة الهوية، بل لقد تحولت الهوية إلى مشكلة يتناولها الكتاب العرب بنوع من الاختلاف الذي يصل حد التناقض. والهوية، لمن لا يعلم نوعان: هوية غير إرادية وهي شعور المرء بالانتماء الذي يولده عيشه الدائم في مجتمع محدد تاريخاً.

إنها صفات أساسية تسمح للفرد أن يقول أنا أنتمي إلى هذه الدولة إلى هذه الأمة إلى هذا الشعب إلى هذه القومية إلى هذا الدين إلى هذا المعتقد إلى.. الخ. الهوية تعريف. فأنا عربي يعني أعرف نفسي بالانتماء القومي، أعرف نفسي بهوية متعددة الصفات، عرقية لغوية، قيمية.

وقس على ذلك تعريف الإنسان نفسه بالجنسية التي تمنحها الدولة. أو تلك الهوية التي تحدد انتماء الفرد إلى هذه الطبقة أو تلك، إلى القرية أو المدينة، الخ. وفي كل أحوال هذه الهويات ليس للفرد حرية في اختيارها في الغالب.

إذ نادراً ما يختار شخص ما قوميته ودينه ودولته. وهوية فردية حرة هي ثمرة إرادة الفرد نفسه. ولكن لشدة حضور مشكلة الهوية الجمعية وما يتمخض عنها من اتجاهات أيديولوجية نسينا أمراً في غاية الأهمية، ألا وهو الهوية الفردية غير المرتبطة مباشرة بالهوية الجماعية.

وما يتولد عن الشعور بها أو عن غياب الشعور بها من مشكلات. فالمهنة مثلاً، هوية فردية، وتنعكس على حياة صاحبها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بل إن هوية كهذه، تحدد نظرة الهيئة الاجتماعية بها.

باستطاعتي أن أتحدث عن هويات فردية كثيرة جداً انطلاقاً من المهنة والسلوك الفردي، والمواقف من مشكلات السياسة والمجتمع. غير إن الأسئلة التي أنا بصدد الإجابة عنها هي: هل هوية الفرد التي هو مسؤول عن صناعتها ثابتة أم متغيرة؟ وهل يجوز أن ننظر إلى هوية الفرد انطلاقاً من ماضيه فقط؟ هل من الحكمة أن نتعامل مع شخص انطلاقاً من صفة كانت له؟ هل يكفي سلوك واحد لكي نحدد هوية الفرد الثابتة؟

يبدو لي أن الذهنية العربية عموماً تنحو نحو اعتبار الهوية الفردية هوية ثابته لا تتحول ولا تتغير، كما تنظر إلى الفرد على أساس كهذا. في مستوى الخيارات السياسية، مثلاً، فإن الفرد، من حيث المبدأ، يتخذ هذا الخيار حراً. لكن الموقف السياسي قابل للتغير بوصفه موقفاً حراً، لكن الذهنية في بلادنا لا تعترف بالتغير بل تحدد هوية الفرد السياسية تأسيساً على موقفه القديم وليس الجديد.

لقد كان فلاناً وزيراً في حكومة بلد ما، فانشق عنها وأصبح منحازاً للمعارضة، لكن كثيراً من الأفراد لا يرون في انشقاقه عنها هوية جديدة، بل يعودون إلى هويته القديمة على أنها الهوية الثابتة، ولا يعترفون له بهويته الجديدة.

على خلاف ما جرى في روسيا، فجميع قادة روسيا بعد البريسترويكا هم شيوعيون، يلتسين كان أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في موسكو وصار قائد القضاء على المرحلة السوفييتية وجرى التعامل معه بناءً على هويته الجديدة. وقس على ذلك بوتين الذي كان شيوعياً وموظفاً في جهاز المخابرات السوفييتية.

أما عندنا فما زال بعض المنتمين إلى مذهب إسلامي معين ينظرون إلى قامات تاريخية إسلامية عظيمة بناءً على موقفها في الجاهلية، بل وسمعت تقليلاً من شأنها على اعتبار بعضهم من الطلقاء.

ولو نظرنا إلى الهوية الفكرية والتي هي عرضة للتغير عند المفكر والكاتب عموماً فإن كثيراً من النقاد لا يلتفتون إلى هذه الهوية في سيرورتها ويقفون عند مرحلة من مراحلها فقط على أنها هي الهوية الدائمة.

ويعود أمر كهذا إلى فكرة الثبات المتمركزة في الوعي وضعف فكرة التحولات في الذهنية العربية وإلى الحضور الدائم لما هو مطلق في مقابل غياب النسبي، وكذلك إلى ضعف فكرة الحرية والحق في الحرية أن يكون المرء كما يريد أن يكون، والى النزعة الدائمة للقيام بعملية تقويم الأفراد فيختار المقوم هوية الفرد على هواه ولأن التقويم في ذهنيتنا يميل إلى السلب فإن اختيار الهوية الدالة على الفرد تخضع لميل كهذا.

 إن الإنسان الفرد هو الآن، والآن سيصبح ماضياً، وهكذا، فوجود الإنسان، أي إنسان، سابق دائماً على هويته الفردية، سواء أرادها هوية ثابتة أو أرادها هوية متحولة. وأمر كهذا يقع في حقل الحرية الفردية.

 

Email