غيوم قاتلة وأمطار سوداء

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا موسم إطلالة المطر.. البرد الذي يقابله دفء مشتهى.. نهايات تشرين المزاجية. الأرض عطشى للماء، الماء في علم الغيب. الغيم بعضه أبيض، سحاب يداعب لهفة العطاش للارتواء، لكنه يذوب سريعاً، تبتلعه الريح كما يبتلع دخان السلاح أرواح القتلى في هذه المنطقة المنذورة للموت. وثمة غيوم سوداء، خزانات ماء معلقة على عوامل الفيزياء والكيمياء، وعلى نقاء الدعاء في صلوات الاستسقاء.

هنا تسقط من السماء بفعل قاتل براميل تحمل المطر القاتل على رؤوس الناس. وهنا مطر مسلح يفتش الناس على الحواجز، رجالا وأطفالا ونساء، تحت الحزام وفوق الحزام، وبين الضلوع التي أنهكها الاحتلال. هنا، في هذا الزمن الرديء، الكل يرتدي موته صباح مساء.. ((وما تدري نفس بأي أرض تموت)). قد تحمل الموت رصاصة قناص، أو بندقية محتل، أو قذيفة إف 16.

تشرين موسم حرث الأرض، إعداد بيت البذار، أحضان دافئة لتنمو الحياة، سنابل قمح، تين وعنب ورمان وزيتون، ليمون وكوسا وخضار من شتى الألوان.. هذا وقت الزرع وانتظار المطر. هي أرضك أيها الفلاح، لتطعمنا من يديك اللتين شققهما التعب، إن بقيت لك يدان بلا قيد في السجون والمعتقلات، وفي الشوارع والمنعطفات..

في هذا الوطن العربي اليتيم. لكن الأيتام يجدون بدائل، ومن ليس لديه نهر يخترع النهر، ومن وطنه غارق في الدم فليحفظ في قلبه خارطة وطنه. الشعوب المبتلاة بالاحتلال تخترع أساليب للمقاومة وطرقاً للحياة، بعيداً عن الحواجز والألغام و.. عن المجندات الشقراوات اللواتي يمارسن الذكورة بصورها المسلحة!

يحكى أن فلسطينياً عجوزاً يعيش وحده بعدما استشهد اثنان من أبنائه، أراد في موسم الزراعة، كمثل هذه الأيام، أن يزرع البطاطا (البطاطس) في حديقة منزله، لكنه لكبر سنه لا يستطيع، فأرسل إلى ابنه الأسير في سجون الاحتلال رسالة يقول فيها:

ابني الحبيب أحمد، تمنيت أن تكون معي الآن وتساعدني في حرث الأرض لكي أزرع البطاطا، فليس عندي من يساعدني. بعد أيام تسلم الرسالة التالية من ابنه: «أبي العزيز، إياك أن تحرث الحديقة لأنني أخفيت فيها شيئاً مهماً، عندما أخرج من المعتقل سأخبرك ما هو... ابنك أحمد».

لم تمض ساعة على الرسالة وإذ برجال الموساد والاستخبارات والجيش الإسرائيلي يحاصرون المنزل ويحفرون الحديقة شبراً شبراً.. فلما لم يجدوا شيئاً غادروا المنزل. في اليوم التالي وصلت رسالة للأب من ابنه: أبي العزيز، أرجو أن تكون الأرض قد حرثت بشكل جيد، فهذا ما استطعت أن أساعدك به، وإذا احتجت لشيء آخر أخبرني.. وسامحني على التقصير.

من يسامحنا نحن على التقصير في حق تاريخ أمتنا وحاضرها ومستقبلها؟ كيف نبرر لأجيالنا القادمة خيباتنا وانهياراتنا ووصولنا إلى هاوية سحيقة خارج الطريق؟ أي وضع سنكون فيه بعد سنة، بعد خمس، بعد عشر سنوات؟ كيف سمحنا لأعداء أمتنا بالتكالب علينا، ولم نرتدع من الذي أكل يوم أكل الثور الأبيض؟

بدعوى «الديمقراطية» فقدنا ثوابت قيمنا، التي ورثناها من أمة وصلت قوتها من سور الصين العظيم إلى وسط أوروبا، ومن دين حنيف أرسى قواعد الديمقراطية الحقة، بدءاً من اختيار أول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وكيف كانت البيعة تتم بدون ضغوط ولا أوراق مزورة؟

وكيف امتد ديننا في شرق الأرض وغربها دون إجبار ولا إكراه؟ بلا ذبح على طريقة داعش، ولا تخريب وتآمر وتحالف مع العدو ومع الطامع في ثرواتنا وسيادتنا كالإخوان المسلمين وما فرخوا من تنظيمات إرهابية تصب كلها في مصلحة المتربصين بنا؟!

إن العرب مقبلون على مرحلة سوداء، ولا نقول هذا من نظرة تشاؤمية، بل من إفرازات واقع يسوء يوماً بعد يوم. وهذا ما «يبشر» به ساسة وعسكريو الغرب، فوزير الدفاع الأمريكي السابق ليون بانيتا يقول: «إن القتال ضد تنظيم داعش سيكون صعباً وقد يستغرق عقوداً»، وأضاف: «أعتقد أن الحرب ستستمر نحو ثلاثين عاماً،..

وقد يمتد تهديد التنظيم المتطرف إلى ليبيا ونيجيريا والصومال واليمن». وقد امتد بالفعل تحت مسميات مختلفة، إلا أنها موحدة في المعنى. إن ما تشهده منطقتنا العربية ليس حرباً أهلية، ولا حرباً عرقية، ولا طائفية، بل مؤامرة اختلطت فيها كل التناقضات والاختلافات. فهي اختلافات موجودة في كل دول العالم، لكن بريق ما سمي بالثورات، أعمى الكثيرين عن الحقيقة.. ومن لم يقتنع بعد فليتابع الصهيوني برنار ليفي، عراب هذا الخراب العربي!

 

Email