الحداثة الجريحة.. الحداثة المبتورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا تاريخياً؟ السؤال الذي بدا ولايزال وجودياً وكينونياً للنخب السياسية، وللصفوة المتميزة للمثقفين، منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى الآن. أجيال وراء أخرى والسؤال مستمر، ويحمل في أعطافه بعض الانكسارات النفسية والهموم الكثيفة. اختلفت صياغات السؤال من مرحلة لأخرى، بحسب التغير في نظريات التخلف والبحث في أسبابه وعوامله ومساراته وتحليلها..

ومعها نظريات ومقاربات التنمية عموماً والسياسة خصوصاً. والسؤال التاريخي ينتقل من مفهوم التقدم إلى مفاهيم أخرى (التطور والتحديث والحداثة وما بعدها، والعولمة وصيروراتها)، ولايزال غائراً، وعديد الإجابات تقدم كأحد التمرينات النظرية والتطبيقية على مسارات وأعطاب تعامل النخب المصرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، مع هذا السؤال المركزي.

بدأت الإجابة على السؤال من خلال إدراك سلطوي بضرورة إحداث تغييرات في الدولة ذاتها، لإمكانية تحقيق الطموحات «الإمبراطورية» لمحمد علي خارج حدود البلاد، ونزعته «الاستقلالية» إزاء الإمبراطورية العثمانية المريضة. من هنا ارتكز التغيير على نمط من الذرائعية السلطوية التي ربطت بين أهداف محمد علي، وبين عمليات بناء الدولة وتنظيمها إدارياً وقانونياً، وإعداد جيش جديد يعتمد على التنظيم والتسليح الحديث والتدريب الذي تأخذ به الجيوش الأوروبية الحديثة. بدأ التحول انطلاقاً من الجيش والقانون والإدارة والبعثات إلى فرنسا، لاسيما في عهد إسماعيل باشا.

كان التحديث السلطوي للمؤسسات والقيم أحد مداخل بناء الدولة الحديثة، ثم استمر مع بدء الحركة القومية الدستورية الكفاحية للتحرر من الاستعمار البريطاني، والربط بين الاستقلال وبين الدستور كرمز له، ونظام للحقوق والحريات، وعلامة على الدولة الحديثة. وكان عموماً يحمل في طياته بعض من انشغالات وتداخلات مفهوم الحداثة، لكنه لم يكن مكتملاً..

ولم يتسم بالوضوح الفكري والنظري لدى بعض عناصر النخبة السياسية والمفكرين المصريين، حول العلاقة التاريخية الوثيقة والعضوية بين عمليات التحديث، والحداثة على المستويات الفكرية والسياسية والقانونية والثقافية، منذ محمد علي وإسماعيل باشا حتى المرحلة شبه الليبرالية (23-1952)، وفي ظل ثورة يوليو 1952 وعديد مراحلها وحتى الآن.

وكان التحديث في بعض وجوهه يمثل انحرافاً عن الحداثة، وتداخلاً معها في بعض المجالات، وابتسارات بنيوية في تشكيلها في الغالب. من هنا نستطيع القول إن أحد أسباب ضعف قدرة النخبة السياسية والمثقفة على إحداث اختراقات كبرى في الثقافة والمجتمع التقليدي (في بنيات الأفكار والقيم ورؤى العالم والذات والهوية)، يعود إلى تناقضات في تكوين الدولة الحديثة..

وسياسات النخب السياسية والثقافية التي قادتها وشكلت داخلها جذور عوامل وأسباب تشكيل ونمو الأصولية الإسلامية السياسية الراديكالية والحركة السلفية، وحضورها التكويني المستمر، وتمرداتها الإيديولوجية والحركية العنيفة، وشكوكها وتجريحها للدولة الحديثة، من خلال لجوئها إلى مجموعة من المقولات الإسلامية الفقهية التأويلية، والمستمد بعضها من خارج سياقاتها التاريخية أو النصية لتسويغ حضورها، ولتحقيق لأهدافها السياسية والسلطوية بامتياز.

وأحد أبرز هذه العوامل التكوينية التي أدت إلى استمرارية هذا التشكيك الديني والأيديولوجي في الدولة ـ الأمة الحديثة، يعود إلى المناورة بين التقليدي والمحدث، بين الديني والمدني لدى النخب السياسية في سياساتها، ومعهم الجماعة الثقافية الحديثة.

إن سياسات التحديث المنقوص والحداثة المبتسرة والجريحة، شكلا إحدى المناورات النخبوية وإجاباتها عن سؤال؛ لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم الأوروبيون والغربيون؟ إنها الحداثة المبتورة والمرتبكة على مستوى القناعة بها وبمكوناتها ومعالمها وآلامها العميقة، والتحديث المرتبك والأداتي المادي، والسؤال: كيف؟

يعود ذلك - في تقديري وأرجو ألا أكون مخطئاً - إلى أن الحداثة المبتسرة أو المضطربة والمعطوبة من خلال التحديث المادي، كان مدخلها الرئيس هو التحديث القانوني السلطوي، للانتقال من نظام المكانة إلى الهندسات القانونية المدنية الحديثة، من خلال تعريب الأنساق القانونية الأساسية من المرجعية القانونية اللاتينية (القانونين الإيطالي والفرنسي)، ودستور 1923 من المصدر البلجيكي. وكان الاستثناء يتمثل في نظم الأحوال الشخصية (قانون الأسرة) التي تركت للشرائع الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية. والجوانب الإيجابية للتحديث القانوني السلطوي تمثل في ما يلي:

1- تم إنتاج نخب شبه حديثة عبر الجماعة القانونية من القضاة والفقه والمحامين الذين شكلوا أحد أبرز مكونات النخب السياسية والثقافية، وقادة أجهزة الدولة البيروقراطية. 2- بناء مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية حديثة. 3- تشكيل بعض منظومات الأفكار السياسية والاجتماعية والثقافية الحديثة، المهجنة والمبتسرة، من خلال الاستعارات القانونية وفي بناء الدولة وأجهزتها، وفي نمط المعمار الحديث الذي تبلور في القاهرة والإسكندرية وبعض المدن المصرية الأخرى، مع وجود جاليات أجنبية ومتمصرين..

ومن ثم تم تشكيل أفق وفضاء حداثي مصري مفتوح على أوروبا أساساً، وعلى نحو أدى من خلال الاستعارات الثقافية الأخرى، إلى تبلور نظم أفكار تنتمي إلى عائلات فكرية وفلسفية عدة، من خلال المجتمع شبه المفتوح، والأفكار شبه الليبرالية، والقومية، والماركسية، ومعها تشكلت الأحزاب السياسية العلنية والسرية، والبرلمانات، وأنتلجنسيا مصرية.

العطب الرئيس في هذه الحداثة المبتسرة أو الجريحة، تمثل في أن بنى الأفكار الوافدة في السياسة والاجتماع بل والقانون، تم تقديمها إلى الحياة المصرية في ظل حضانات الفكر التقليدي. كانت نشأة الأفكار في الغرب أساساً. واعتمد بناة الحداثة المصرية على تقديم هذه الأفكار بعد إضفاء مجموعة من التحويرات والتبديلات، إن لم نقل إعادة الصياغة والحذف..

وفي إطار نسق لغوي تقليدي في بعض الأحيان على نحو أدى إلى ابتسارها، ناهيك عن محاولة الدمج بين منظومات الأفكار الحديثة وبين مجموعات الأفكار التقليدية، على نحو توفيقي أو تلفيقي، رغم التناقضات في المنطق الداخلي لكل منظومة أفكار.

وكانت استراتيجيات التأليف والتوفيق بين النقائض، تعبيراً عن نمط من المناورات الفكرية وعدم الحسم من لدن النخب الثقافية والسياسية المصرية، بما أدى إلى استمرارية الازدواجيات والنقائض في حياتنا، بين التقليدي والمحدث، القديم والحديث، الأصالة والمعاصرة، والتقليدية والحداثة.. إلى آخر هذه المسميات، دونما حسم لها في واقع الحياة، أو في اختيارات النخب وسياساتها واستراتيجياتها. هذه الإشكالية، تضافرت معها إشكالية أخرى، مازالت لم تخضع للدرس والفحص النظري والتحليلي والتطبيقي..

وهي الآثار السلبية لظاهرة التثاقف بين أنظمة ثقافية مختلفة في المثال المصري. فالتداخل والتفاعل عبر الترجمة، أدى ولايزال في الكثير من الأحيان إلى خلخلة وابتسارات عدة. من هنا يمكن فهم بعض أسباب عجز النخب السلطوية المصرية، منذ بناء الدولة الحديثة وحتى الآن، عن تقديم إجابة خلاقة لسؤال: لماذا تخلفنا ولماذا تقدموا؟ حتى هؤلاء الذين بدأنا قبلهم في مشروع التحديث كاليابان، وهؤلاء الذين بدؤوا بعدنا في عقد الستينيات من القرن الماضي ككوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا.

 

Email