حقوق الإنسان.. وبقاء الأوطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

التمرد ليس كله شراً، فقد يكون صفة محمودة ومرغوبة في بعض الأحيان، فالعباقرة والعلماء وأصحاب الرسالات الإصلاحية وأصحاب الفتوحات والاكتشافات في كل زمان ومكان، هم في الأساس متمردون على واقع متخلف أو أوضاع مزرية أو على ظروف ظالمة وجائرة.

وفي هذه الحالات يكون التمرد المحسوب والمدروس تمردا حميدا، لأنه سوف يفضي إلى الأفضل ويقود المجتمعات والبشرية بأكملها إلى أوضاع أكثر تقدما وتحضرا.

أما التمرد الأهوج البعيد عن الدراسة والحسابات السليمة، فيعد نوعا من المقامرة أو المغامرة نتائجه غير معروفة وقد تؤدي إلى تدمير الذات. وعلى حد وصف الأديب العربي الراحل توفيق الحكيم في أحد كتبه عن هذه المسألة، أن المغامرين إذا نجحوا فهم عباقرة متفوقون، أما إذا فشلوا فهم متمردون مغرورون.

هذا عن سلوك الأفراد الذين يتحملون وحدهم نتيجة تصرفاتهم السلبية على وجه الخصوص، فماذا عن حالات التمرد الجماعي للمجتمعات التي تصل أحيانا إلى حد الثورات؟ هل تنطبق عليها أيضا صفة التمرد الحميد؟ أغلب الظن أن الإجابة عن هذا السؤال لن تسير في اتجاه واحد.

ولا يمكن بلورتها إلا بكثير من البحث والدراسة والتحليل، وفي نهاية المطاف قد نجد أنفسنا مضطرين للتعامل مع القضية وليس مع المبدأ، بمعنى أنه من الصعب صياغة نظرية واحدة تحكم كل الحالات، ويصبح البديل هو التعامل مع كل حالة وكل تجربة على حدة.

وعلى سبيل المثال؛ هل يجوز أن نساوي بين ثورة يوليو 1952 وثورة يناير 2011 في مصر ونطبق عليهما نفس قواعد التحليل من حيث المقدمات والظروف والنتائج؟ وهل يجوز على صعيد آخر، مساواة أحداث الربيع العربي في مصر وتونس بأحداثه في ليبيا وسوريا واليمن؟

قد تؤدي الأسئلة السابقة إلى طرح مزيد من التساؤلات أكثر مما تقدم من إجابات، هل يمكن للمجتمعات أن تتخذ في لحظة معينة قرارا جماعيا بتدمير الذات والدخول في تمرد شامل بغض النظر عن النتائج النهائية؟

وهل تكتفي تلك المجتمعات بنشوة الحالة الثورية ثم تروح السكرة وتجيء الفكرة لتندم على ما شاركت في صنعه وتتحسر على ما كانت فيه؟ ومن ثم، هل تنتفض الدول ممثلة في حكوماتها ومؤسساتها دفاعا عن وجودها وبقائها في مواجهة مثل هذه الحالات من التمرد الجماعي.

خاصة إذا ما اتضح مبكرا أنها بالفعل تستهدف كيان الدولة ذاته؟ هذه الإشكالية شديدة الالتباس، وبالفعل إجاباتها محيرة إلى أقصى درجة يمكن تصورها، لأنها تطرح القضية الشائكة لطبيعة العلاقة بين حقوق الإنسان وضرورات حماية بقاء الأوطان، أين الحدود وأين الأولويات؟ وعند أي درجة نقدم حقوق المواطن؟ وعند أي مرحلة تكون حقوق الوطن فوق أي اعتبارات أخرى؟

لا شك في أن غالبية دول العالم النامي هي التي تعاني من هذه الإشكالية، أكثر من غيرها من الدول التي استقرت فيها الديمقراطيات بشكلها النهائي منذ عشرات السنين، فاستطاعت أن تحقق التوازن بين قوى المجتمع بقواعد وقوانين وضوابط تلزم الجميع بالعيش تحت مظلة واحدة، ويمكنها ذلك من اللجوء إلى إجراءات استثنائية في مواجهة مواقف طارئة، دفاعا عن بقاء الدولة ذاتها على حد قول حكوماتها. ح

دث ذلك في مناسبات عديدة، في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، عندما تعرضت لأعمال شغب خطيرة هددت كيان الدولة، فلجأت إلى إجراءات تتعارض بشدة مع حقوق الإنسان المتعارف عليها أمميا وفي دولهم بشكل خاص.

الإجراءات نفسها تمثل مشكلة كبرى إذا ما لجأت إليها الحكومات في دول العالم الثالث، فسرعان ما تطبق عليها القيم والقواعد الكونية لحقوق الإنسان.

وبالقطع لسنا هنا بصدد الدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية أو الحكومات والدول الاستبدادية، ولسنا مع مصادرة الحريات العامة والشخصية ما دامت تمارس وفق القواعد والضوابط المتعارف عليها.

ولكن المراد هو تحديد واضح وصريح لحقوق الانسان وحقوق الوطن، لأنه ببساطة هناك تداخل شديد بينهما بقدر ما يبدو أمام البعض أنهما متعارضان ولا يلتقيان.

وهذا تحليل مغلوط لأن الدفاع عن الأوطان وسلامة المجتمعات والحفاظ على كيانها، قد تكون أشياء على رأس حقوق الإنسان، والتفريط فيها هو أيضا تفريط وإهدار لحقوق الوطن والمواطن على حد سواء.

فأي حقوق تلك التي تبيح قتل الأبرياء وتدمير المنشآت والمؤسسات وتخريب الممتلكات وقتل رجال الشرطة والجيش ورجال الدولة وتعطيل المرور وإغلاق الشوارع ووقف عجلة الإنتاج، بمزاعم الدفاع عن الحرية والديمقراطية؟ هنا يكمن لب المشكلة، عندما نعتبر أفكار الفوضى الخلاقة جزءا من منظومة حقوق الإنسان التي ينبغي الدفاع عنها.

إن ما نشاهده من فوضى وخراب ودمار وقتل وتشريد وعدم استقرار في سوريا والعراق وليبيا واليمن، كلها مشاهد تدفعنا للتفكير ألف مرة في تلك الحقوق المزعومة للإنسان تحت مظلة الفوضى الخلاقة.

ومع رفضنا الكامل للنظم الاستبدادية، إلا أن المجتمعات في لحظات مفصلية خطيرة، عليها الاختيار الرشيد بين الإصلاح التدريجي والمدروس، والانتحار الجماعي الهمجي، وعليها أيضاً أن تعرف جيداً كيف تحمي حقوق الإنسان، دون التضحية بضرورات بقاء الأوطان.

 

Email