ماذا فعلت العولمة بالتنمية العربية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كيف يمكن أن تضر العولمة بأهدافنا الاقتصادية؟ من رفع معدل النمو، إلى تصحيح الهيكل الإنتاجي، إلى تحقيق المزيد من العدالة في توزيع الدخل، على تحقيق المزيد من التقارب أو الاندماج بين الاقتصادات العربية؟

إن المفترض أن العولمة تقترن بالضرورة بتوسيع السوق، والمفترض أيضاً أن توسيع السوق يحفز على زيادة القدرة على التصدير ورفع معدلات الاستثمار، فكيف يمكن أن يلحق هذا ضرراً بمعدلات النمو؟

الأمر يتوقف على ما إذا كنا بصدد بلد يلعب دوراً إيجابياً أو سلبياً في العلاقات الاقتصادية الدولية، قادر على انتهاز فرص التصدير، أم يقنع بفتح أبوابه أمام الواردات.

توسيع السوق يمكن أن يدفع معدل النمو إلى الارتفاع أو الانخفاض، بحسب تشجيعه أو تثبيطه للدفع إلى الادخار والاستثمار. إن من الممكن بالطبع أن يجذب توسيع السوق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في البلاد العربية..

ولكن أثر ذلك في رفع معدلات النمو والتشغيل يمكن أن يكون ضعيفاً أو عشوائياً، إذا لم تتوفر لهذا البلد سياسة اقتصادية فعالة، توجه الاستثمارات في اتجاه دون غيره، وفقاً لما تتطلبه المصلحة القومية، وليس وفقاً لدوافع المستثمر الأجنبي.

لقد كان تطبيق سياسات الانفتاح، ابتداء من السبعينيات، في الدول العربية التي كانت أكثر انغلاقاً في الستينيات، كمصر وسوريا، أثر سلبياً في الهيكل الإنتاجي، فازداد اعتماد الاقتصاد على تصدير المواد الأولية وعلى إنتاج الخدمات، ولم يرتفع نصيب الصناعة التحويلية بدرجة ملموسة، وكان لفتح أبواب الهجرة إلى دول البترول أثر إيجابي في معدلات التشغيل..

ومن الممكن أن يعتبر هذا أثراً من آثار العولمة. ولكن الطلب على العمالة المهاجرة كان مرهوناً بالظروف الاقتصادية في الدول المستقبلة لها، وهذه الدول لم تتجه بدورها إلى رفع معدلات التصنيع فيها بدرجة ملموسة، ومن ثم، اتجه الجزء الأكبر من العمالة المهاجرة إلى الاشتغال في قطاعات الخدمات، التي يتوقف معدل نموها على ارتفاع أو انخفاض أسعار البترول..

ومن ثم، فما إن اتجهت أسعار البترول إلى الانخفاض ابتداء من منتصف الثمانينيات، حتى أخذ هذا الأثر الإيجابي للهجرة في الأفول.

اقترن ارتفاع معدل العولمة كذلك، ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، فنمو ظاهرة «المجتمع الاستهلاكي» في العالم ككل، التي أضرت بمعدلات الادخار في البلاد العربية، كما أضرت بها في غيرها. واقترن كذلك باتجاه ملحوظ نحو زيادة درجة التفاوت في الدخل في معظم بلاد العالم، كما أكدت الإحصاءات المختلفة منذ ذلك الوقت..

وكان آخرها ما ورد في كتاب توماس بيكيتي (T. Pikett) الأخير «رأس المال في القرن الحادي والعشرين». وهذه الظاهرة (اتساع الفجوة بن الدخول)، وثيقة الصلة بظاهرة العولمة، التي تتيح من الفرص لزيادة عوائد رأس المال، أكثر مما تتيح من الفرص لزيادة عوائد العمل، سواء في الدول التي هاجر منها رأس المال، أو الدول التي أتى إليها، وهي العامرة بالمتبطلين الذين يقبلون العمل بأي أجر.

عندما دعا الاقتصادي الإنجليزي الشهير، جون مينارد كينز، في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى أن تلعب الدولة دوراً أكثر في مجموع الإنفاق كعلاج لمشكلة البطالة، دعا في الوقت نفسه إلى فرض قيود على حركة التجارة ورؤوس الأموال..

وهي دعوة معاكسة تماماً لاتجاه العولمة. وقد عبر كينز عن نظرته إلى العولمة بقوله: «إني أتعاطف مع هؤلاء الذين يدعون إلى تخفيض الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الأمم إلى حدّه الأدنى، أكثر مما أتعاطف مع الداعين إلى زيادته إلى حده الأقصى.

نعم هناك أشياء يجب أن تظل عالمية بطبيعتها، كالأفكار والمعرفة والفنون والمعاملة الكريمة للغرباء والسياحة. ولكن دع السلع يجري غزلها في داخل الوطن، كلما كان هذا ممكناً، من دون إرهاق وأعباء تزيد على الحد. وفوق كل شيء، فلتكن حركة الأموال في الأساس محدودة بحدود الوطن».

واللافت أن حركة العولمة لم تؤد إلى فتح الأبواب فقط أمام السلع ورؤوس الأموال، ولكنها فتحتها أيضاً (بما اقترنت به من ثورة المعلومات والاتصالات)، أمام الأفكار وأنماط الاستهلاك. نعم، كانت لهذا الانفتاح آثاره الفكرية والنفسية الطيبة في توسيع آفاق الشباب وتعريفه بمختلف الثقافات والحضارات..

ولكن كانت له أيضاً آثاره السلبية في التنمية العربية. إن النهم الاستهلاكي، على النحو الذي نشهده الآن في مختلف الأقطار العربية، لم يكن معروفاً منذ خمسين عاماً، أو كان على الأقل مقصوراً على شريحة صغيرة جداً من المجتمعات العربية. الآن أصبحت زيادة الاستهلاك هي الهدف المرجو لشرائح واسعة من المجتمع، والحاكم لمختلف أنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية.

لم يضر هذا فقط بمعدلات الادخار والاستثمار، وإنما ألحق أيضاً ضرراً بليغاً بالشعور القومي، وبالولاء للأمة ككل، وبالتالي، التعلق بفكرة الوحدة والاندماج العربي. لقد تفتت المشروع القومي خلال الخمسين عاماً الماضية إلى مشروعات فردية صغيرة، تتعلق بزيادة دخل وثروة الفرد أو الأسرة..

وبالترقي والصعود على السلم الاجتماعي.. ومع اقتران الانفتاح الاقتصادي بزيادة تغلغل الشركات الأجنبية العملاقة في الاقتصادات العربية واتساع نفوذها، تحول الولاء للأمة، أكثر فأكثر، إلى ولاء للشركة التي تمنح هذه الفرص لزيادة الدخل والترقي الاجتماعي. هذا هو ما فعلته العولمة بالتنمية في البلاد العربية.

 

Email