نهاية النظام الإقليمي العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعرف النظام الإقليمي العربي الذي سعى إلى توحيد الأمة العربية استقراراً منذ نشأته بعد الحرب العالمية الثانية، فقد سبقته وتخللته وتلاحقه الآن مشاريع شتى، تتناقض في أهدافها وأيديولوجيتها وتتجاذبه على أرض الواقع تحديات كبرى داخلية وخارجية تنذر بانهياره وتؤرخ لنهاية حقبة وبداية أخرى لم تتضح معالمها بعد تحت مسمي «الشرق الأوسط الجديد».

وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت مشروعات أخرى تحمل نفس الملامح ولكنها جاءت في حقبة الحرب الباردة وهذه الحقبة ذاتها هي التي شهدت المد القومي العربي بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي حاول صياغة نظام إقليمي عربي يرفع شعار العروبة والتحرر الوطني والاشتراكية، إلا أن هذه المساعي لم يكتب لها النجاح.

وبعد هزيمة 1967 وانكسار القيادة الناصرية، ثم وقوع الحرب الأهلية اللبنانية 1975 واندلاع الحرب الإيرانية العراقية ( 1980-1988) وأخيرا غزو العراق للكويت 1990..

وما أعقب كل ذلك من زوال نظام القطبية الثنائية بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، تراجع تماما ما كان يعرف بالنظام الإقليمي العربي، وهو ما تأكد بحرب الخليج الثانية وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام 1991، واللذين أديا إلى انقسام الدول العربية.

ومع كل حدث من هذه الأحداث التي مرت بها المنطقة، اختلفت التوازنات الإقليمية وازدادت التدخلات الخارجية، ثم ما لبثت أن عمت الظاهرة المنطقة كلها خصوصا بعد إسقاط النظام العراقي 2003 وصولا إلى المرحلة الحالية التي يرمز لها بـ «حقبة الربيع العربي»..

وما تزامن معها من إضعاف لكيانات الدول وانتشار الفوضى وتنامي دور الجماعات المسلحة وتفاقم الحروب الأهلية والطائفية، فبعد العراق خرجت ليبيا من المعادلة الإقليمية إثر سقوط الدولة وستتبعها سوريا بشكل أو بآخر ..

وكذلك اليمن، كما أن الصراعات والاضطرابات ممتدة في أرجاء المنطقة متخذة طابعا طائفيا غير مسبوق مما أسفر عن المشهد الإقليمي الجديد بمحاوره الرئيسية، محور شيعي تتزعمه إيران (يضم أجزاء من العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين)..

ومحور سني تتزعمه تركيا ومعها التنظيم الدولي للإخوان بامتداداته شرقا وغربا وفي دول الخليج، وقطر التي أدت لأول مرة إلى انقسام الدول الخليجية، ومحور آخر (يضم السعودية ومصر والأردن والإمارات والكويت) فضلا عن امتداداته في لبنان وسوريا و العراق) .

وهناك ملاحظات أساسية على تلك المحاور الجديدة، أولها وربما أخطرها، أنه ليس هناك حدود فاصلة للدول الداخلة في أي من هذه المحاور، إذ لم تعد «الدولة» هي معيار القياس، فالحديث يدور على السيطرة على أجزاء أو أحزاب أو أقاليم داخل دولة من الدول تتنازعه المحاور المختلفة، وهو ما يعني أنها ستظل ساحات مفتوحة للتنافس الإقليمي..

وأن التحديات من الداخل بدأت تفوق تلك الآتية من الخارج، فتأييد تركيا للثورة في سوريا ينحصر تقريبا في دعمها للإخوان، وهو ليس أكثر من محاولة لتبديل توازن القوى الذي هو الآن في صالح إيران بحكم تحالفها مع نظام بشار العلوي. وثانيها ، أنه ولأول مرة في تاريخ الإقليم يظهر محور شيعي بهذه القوة، بل ويبدو أكثر تماسكا أو على الأقل غير منقسم بعكس المحور السني..

ولا شك أن ما أعطي هذا المحور قوة إضافية هو موقف الدول الكبرى منه، خاصة الولايات المتحدة التي أبدت استعدادا لعقد الصفقات واقتسام بعض النفوذ مع قيادته أي إيران والذي بدا واضحا منذ الترتيبات الأمنية التي جرت بين الجانبين في أفغانستان والعراق، والتي أدت إلى تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة وهو أمر قابل للتكرار في سوريا.

وفي نفس السياق فقد أبدت إدارة أوباما في البداية استعدادا أكبر لدعم المحور السني الأول (تركيا والإخوان) فتركيا دولة محورية في الاستراتيجية الأمريكية وستظل كذلك لفترة قادمة وهو ما عظم من دورها أيضا.

وثالثا وأخيرا، أنه على الرغم من التنافس بين أمريكا وروسيا على النفوذ في المنطقة، إلا أن هناك استعداداً ربما بنفس الدرجة لعقد الصفقات بينهما مثلما بدا في ملفي السلاح الكيماوي في سوريا والنووي في إيران مقابل حفاظ روسيا على نفوذها في أوروبا الشرقية (حالة أوكرانيا تحديدا) وفي آسيا الوسطى أي الحدود المباشرة لأمنها القومي.

إذن، القوى الكبرى ستظل تلعب بجميع الأوراق ولن تنحاز تماما لطرف على حساب آخر والصراع بين هذه المحاور سيستمر من أجل إعادة تشكيل الإقليم، الذي سيتوقف على ما ستحرزه أي منها من انتصارات على الأرض، لكن القراءة السياسية للواقع تقول إن النظام الإقليمي العربي قد وصل إلى نهايته.

 

Email