التاج المفقود

ت + ت - الحجم الطبيعي

«الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى»، مثل يقال لإبراز أهمية الصحة في حياة الفرد وأنها أغلى ما يملك، لكن مع حياتنا العصرية وتعقيداتها سقطت جميع التيجان وفقدت!

كانت الأمراض وما زالت تلازم البشرية منذ القدم، وفى التاريخ الحديث كان السبب الأساس لحدوث المرض هو دخول إحدى الجراثيم بأنواعها، من بكتيريا وفيروسات وطفيليات، إلى جسم الإنسان وما يعقبها من هجوم على أعضاء الجسم وحدوث المضاعفات، التي كانت تصل إلى الوفاة في حالات كثيرة، ولهذا سميت الأمراض المعدية (انتقال الجرثومة من شخص إلى آخر). إذن، كان سبب المرض هجوماً خارجياً!

ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، استطاع العلماء التوصل إلى الحلول، وهي الأدوية بأنواعها. فمن ناحية ظهرت حقن اللقاحات لوقاية الجسم وحمايته من دخول الجراثيم، ومن ناحية أخرى تم اكتشاف أقراص المضادات الحيوية التي قضّت مضاجع البكتيريا وأحالت حياتها إلى جحيم!

اكتشافات مثيرة ونجاحات باهرة أنقذت البشرية من الانقراض، لكن: «الحلو ما بيكملش»، أدت هذه التحولات إلى ظهور إشكاليتين «خربطتا» جميع الأمور وأوجدتا أمراضاً من نوع آخر ذات أسباب جديدة في القرن الواحد والعشرين!

الإشكالية الأولى هي الثورة الصناعية. لا يختلف اثنان على محاسن هذه الثورة من اكتشافات واختراعات أوصلت الإنسان إلى سطح القمر، لكنها سلبت الفرد حركته اليومية وجعلته حبيس المقعد. فالمصانع ألزمت العاملين بالوقوف في أماكن معينة، والمؤسسات الحديثة جعلت مهام الموظف تنفذ بالحاسب الآلي (الكمبيوتر) ..

وهو جالس لا يتحرك. وبمرور السنوات انتقل العاملون من الزراعة والصيد والرعي إلى المدنية الحديثة، فانعدمت الحركة اليومية وبدأت الأوزان في التزايد والدهون في التراكم. وزيادة في الطين بلة ظهرت مصانع الحلويات والمواد الحافظة..

وازدحمت أرفف الجمعيات بالأطعمة المعلبة وغير الصحية، التي شكلت مع قلة الحركة الثنائي القاتل. والنتيجة ظهور كوكبة جديدة من الأسقام، كالسكري والضغط والقلب تحت مسمى «الأمراض غير المعدية»!

وبسبب الثورة الصناعية اختلفت كذلك مسببات المرض، فسبب أمراض القلب وانسداد الشرايين ليس دخول بكتيريا أو فيروس من الخارج، بل سلوكنا وخياراتنا (من جلوس مميت وأكل مقيت) وما ينتج عنه من تجمع للدهون الضارة ومخلفاتها داخل الجسم. وسبب مرض السكري ليس هجوم طفيليات، بل تجمع السكر وتكدسه في أعضاء الجسم، نتيجة عشقنا للوجبات السريعة والتسمر أمام التلفزيون!

أما الإشكالية الثانية فمرتبطة بنظرتنا لكيفية علاج أي مرض. فمع اكتشاف اللقاحات والمضادات الحيوية، ظهرت شركات الأدوية وانتشرت العلاجات من الأقراص والإبر والبخاخات والشراب. فجميعنا أصبح يربط كلمة العلاج بحبة تؤخذ أو إبرة تحقن، وأمست الوصفة العلاجية عبارة عن حبوب جاهزة وما على المريض إلا بلعها فقط. هنا أسأل: هل هناك أقراص لزيادة المشي والحركة؟

أو بخاخات لتغيير عاداتنا وسلوكنا غير الصحي؟ وهل تنفع وصفة الطبيب الحالية لعلاج مسببات السكري والقلب؟ يجب أن نغير نظرتنا لتعريف معنى العلاج ونوعه، فالوصفة العلاجية يجب أن تكون تغييراً في العادات، وليست حبوباً تؤخذ. هي قرارات تنبع من داخل الفرد..

وسلوكيات تطبق على أرض الواقع. هنا أطالب باستخدام مسمى الوصفة السلوكية لعلاج مسببات السكري والضغط. إذن، فلكي نحصل على تاج الصحة، يجب أن ننظر إلى المشي لمدة 30 دقيقة يومياً نفس نظرة أخذ حبة الدواء، ولكي نثبت التاج ونمنعه من السقوط، يجب أن نتعامل مع الفواكه والخضروات تعاملنا مع شراب الكحة الذي إن لم يؤخذ يومياً كان هلاك البدن. تحولات جديدة ومفاهيم مختلفة في منظومة الصحة والعلاج، هدفها الأوحد: إعادة التاج المفقود!

 

Email