المثقف في متاهته وإعاقاته

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا تراجعت، عموماً، الثقافة المصرية العالمة وإنتاجها المعرفي في حقل العلوم الاجتماعية، لا سيما الفلسفة وعلوم الاجتماع والقانون والتاريخ؟ ما هي أسباب هذا التراجع؟ وهل يعود لعلاقة المثقف والمفكر والباحث بالسلطة، أم علاقته بالمجتمع أو بتيارات الفكر العالمي في تطوراته الكبرى في إطار العولمة وما بعد الحداثة؟ من أي المصادر يأتي ضعف فعالية المثقف المصري خصوصاً والعربي عموماً.

لا سيما في أعقاب شيوع فقه وفكر التوحش لدى «داعش» ونظائرها وأشباهها؟ لماذا يبدو رجل الدين الراديكالي والعنيف في صدارة مشاهد العنف الوحشي المفتوح في إطار المنظمات الإرهابية؟

نستطيع القول إننا لسنا إزاء أزمات تاريخية تتصل بتطور الثقافة والبنى المعرفية الحداثية وما بعدها، وإنما أصبحنا إزاء مسألة المثقف/ النخبة المثقفة، لا سيما منذ عقد السبعينات من القرن الماضي. ويعود ذلك إلى عوامل تكوينية، يمكن لنا طرح بعضها في ما يلى:

1- تراجع التكوين المعرفي الرصين للمفكر/ المثقف/ الباحث في تخصصه الدقيق، أو في مصادر المعرفة التي تغذي مقارباته، وتشكل رؤاه الكلية أو الفرعية الخاصة بالقضايا والظواهر والمشكلات، وموضوعات إبداعه أو أفكاره أو معالجاته للأحداث. في هذا الإطار يلاحظ أن المؤلفات التأسيسية في العلوم الاجتماعية، وتطوراتها وانقطاعاتها المعرفية، لم يترجم غالبها إلى اللغة العربية..

وبعضها لم تكن ترجمته دقيقة، وبعضها الآخر يظهر كعناوين أو اقتباسات مبتسرة، ما أدى إلى فجوة معرفية واسعة بين التكوين المعرفي المبتسر للمثقف/ المفكر/ الباحث، وبين التغيرات المعرفية الكبرى في مراكز إنتاج المعرفة في عالمنا. إذا كان هذا حال المثقف، فما بالنا بأوضاع «السياسي» ورجل الدين والبيروقراطي ورجل الأمن.. الخ!

2- أدت الفجوة المعرفية بين المفكر والمثقف، منتج الثقافة العالمة، وبين نظرائه في المراكز المعرفية/ الثقافية الكبرى عالمياً، إلى تفاقم وتراكم الآثار السلبية للمناورات الفكرية الكبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر، لا سيما عدم حل معضلات وإشكاليات العلاقة بين التقليدي والمحدث..

ومن ثم استمرارية المناورة والازدواجيات والمداراة بين الديني والمدني، وبين الديني والسياسي، والديني والثقافي والإبداعي في جميع حقوله، دون حسم أو تأليف إبداعي خلاق ومستمر.

وأسهم بعض كبار المفكرين والمثقفين في تكريس هذه المناورة من خلال بعض الاستراتيجيات اللغوية، والأقنعة اللفظية التي تدور حول الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وسواها من الثنائيات الضدية والصياغات اللفظية الحاملة لتناقضاتها البنيوية.

3- تحولت اللغة كنسق (والأحرى أنساق)، دلالة ورؤية، إلى محض مادة وأداة لألعاب لغوية إنشائية لدى بعض المثقفين والمفكرين، وليس بوصفها هي الفكر ذاته، وفق تطورات الألسنية ونظرياتها ومناهجها واجتياحها جميع فروع المعرفة في العلوم الاجتماعية. لم تعد اللغة والمصطلحات أدوات..

وإنما إدراك وإنتاج لرؤى العالم وإنتاجه. 4- بعض المثقفين يعتمدون على كتابات ثانوية وشروح على هامش المصادر التأسيسية للمعرفة الحداثية وما بعدها، وفي ظل ثورة رقمية تزلزل بعض مكونات العالم الحديث وحداثته العليا، وفق هابرماس، وفي ظل الانتقال من عصر الغرفة الكونية إلى عصر الجهاز الرقمي متعدد الوسائط، الذي وضع المعرفة عند أطراف الأصابع في عصر المعرفة باللمس فائقة التطور والسرعة.

5- استمرارية بعض مظاهر الانتهازية الفكرية والسياسية لدى بعض المثقفين، من خلال الخطابات المزدوجة والمزايدات الفكرية، وتبني منطق العوام وإيماناتهم، ومجاراة منطق وخطاب بعض رجال الدين خشية ووجلاً من أن تطالهم سهام التكفير، وهي ظاهرة تمددت خلال أكثر من أربعين عاماً ولا تزال، وازدادت مع وصول بعض الإسلاميين إلى السلطة..

وانتشار فكر التوحش والعنف لدى داعش والنصرة وأنصار بيت المقدس، قبل وبعد مبايعتهم لأبى بكر البغدادي. 6- بعض المثقفين والمفكرين أصبحوا نخبة ثقافة الحواشي على الحواشي والتهميشات على التهميشات، سواء في المعرفة الحديثة أو ما بعدها. 7- هيمنة لغة السجال العنيف على الحوار، فساد العنف اللفظي والشجارات ولغة الشعارات الخشبية، على الخطاب التفكيكي والتحليلي النقدي، ما أدى إلى تآكل تقاليد الحوار ولغته ومعاييره وقيمه،..

وساعد على ذلك انكسار بعض التقاليد العلمية والأكاديمية النقدية، لصالح الخلط بين الانطباعات والذاتية، والعفوية والمعرفة العامة غير الدقيقة، على حساب الموضوعية والمقاربات البحثية المنضبطة علمياً.

8- خلط بعض المثقفين بين الدعوي والنقدي، وبين الإيديولوجي والمعرفي، والأخطر الاستخدام البياني لمنظومات المصطلحات والمفاهيم العلمية في السجال العام، على نحو أشاع الاضطراب الفكري والسياسي، بعيداً عن الاستخدام الوظيفي والدلالي للمصطلحات في انضباط صارم. 9- تراجع البحث الميداني للواقع المصري والعربي، والاستثناءات محدودة وبعضها غير دقيق..

ومن ثم أصبحت المعرفة السائدة منفصلة عن واقعها الموضوعي وتغيراته وتحولاته، ناهيك عن غيابها عن زمن المعرفة الكوني. 10- تزايد وتمدد مساحة المحرمات السياسية والدينية التي يتعامل ويناور معها المفكر والمثقف، في ظل القيود القانونية والأمنية على حريات الرأي والتعبير والإبداع. 11- اغتراب بعض المفكرين والمثقفين في أعقاب فشل الانتفاضات..

وعجز النخب المدنية عن بلورة توافق عام حول قضايا وقيم التحول الديمقراطي، أدت إلى عودة نخبة الدولة وأجهزتها لإدارة الشأن العام، بما كرس إعادة إنتاج المحرمات السياسية والدينية والأمنية، بكل ما يعكسه ذلك من قيود فظة على دور المثقف وحرياته..

ومن ثم فاعليته في المجالين الاجتماعي والسياسي. إن سعي سلطات ما بعد الانتفاضات إلى فرض الأمن والنظام العام، أدى إلى استبعادها للمثقف من صدارة مشهد التغيير السياسي والتحول الديمقراطي المأمول، وهو ما جعل بعض المثقفين الكبار يولون ظهورهم لما يحدث، يأساً ورفضاً وتعبيراً عن الجفوات بينهم وبين السلطات الانتقالية، رغم كون بعضهم من طلائع عملية التغيير الثوري المجهضة.

 

Email