العالم والحرب العالمية الثالثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال إحياء الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، في مقبرة عسكرية إيطالية، قال البابا فرانسيس: «حتى اليوم، بعد الفشل الثاني لحرب عالمية جديدة، ربما يستطيع المرء التحدث عن حرب عالمية ثالثة، تخاض تدريجياً، وتحصلُ فيها الجرائم والمذابح والدمار». ملاحظة البابا تطرح سؤالاً: إذا كانت الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل، هل نعي ذلك؟ أم أنها تُرى خلف الكواليس فقط؟

ولو طلبت من عشرة أشخاص تعرفهم تحديد الشرارة التي أطلقت الحرب العالمية الثانية، فستختلف الإجابة اعتماداً على فطنة الشخص ومكانه جغرافياً. رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، مثلاً، كان لمدة طويلة يُحذر من النازية قبل وصول هتلر إلى السلطة. لكن أميركا جُرت إلى الحرب بصورة كاملة عندما هاجمت اليابان ميناء بيرل هاربر في ديسمبر 1941.

وبالمثل، قد يقول معظم الناس إن الحرب الباردة ربما بدأت جدياً في غضون أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وهم على الأرجح لا يستندون إلى سبب رصين في حكمهم، ولكن هذا السبب في الوقت عينه مُهم جداً، مثل انشقاق إيغور غوزينكو في 5 سبتمبر 1945..

وهو كاتب الشفرات في السفارة السوفييتية في كندا، والذي فر آخذاً معه 109 وثائق، توثق بالتفصيل التسلل السوفييتي إلى الغرب. هل علم من عايش أحداث عام 1945 أن الحرب الباردة بدأت حقاً؟ حسناً، لقد حدد التاريخ وبأثر رجعي أنها بدأت فعلياً في ذلك التاريخ. وبالطريقة ذاتها، يمكن أن تكون التحذيرات الرهيبة التي أطلقها تشرشل قبل مدة طويلة من اعتبار التاريخ هذه الأحداث مهمة.

إذاً، هل بدأت الحرب العالمية الثالثة؟ وإذا كانت بدأت بالفعل، فهل تتناسب ووصف البابا لها؟ ستكون الحرب العالمية الثالثة لامركزية للغاية، ومعقدة، وسرية، ومتنوعة التكتيكات، وستكون حرباً تتجاوز نموذج دولة ضد أخرى. فالحروب الجارية حالياً في العالم، إما إيديولوجية بالمعنى الديني المحض، أو اقتصادية بحتة تسعى لتعظيم الأرباح (على عكس الحروب التي تروج الأيديولوجية الشيوعية أو الرأسمالية)، وتحدث هاتان الظاهرتان في الوقت ذاته.

الإرهابيون من عناصر تنظيم «داعش» وجماعة بوكو حرام في نيجيريا، ومختلف الجماعات المتشددة الأخرى في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، فضلاً عن جهود التجنيد التي باتت تصل للدول الغربية، جميع هؤلاء منخرطون في نوع واحد من أنواع الصراع، ألا وهو الصراع الديني الأيديولوجي. وهؤلاء مقاتلو حرب عصابات ذوو مرجعيات متفاوتة جداً، أتوا من كل أنحاء العالم للقتال مع مجموعات تفتقر إلى حد كبير للهيكلية الهرمية وللتنظيم.

وتتألف المجموعة الثانية من المحاربين من الدول القومية، وتشارك في حرب اقتصادية لامركزية، لا تقتصر على حدودها الجغرافية، أو تستند إلى أي أجندة سياسية أيديولوجية. والتركيز على الاقتصاد بدلاً من الدفاع عن حدود الوطن أو عن عقيدة سياسية ما، هو ما يجعل الصراعات الحالية لمجموعة الدول القومية تختلف عن الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.

الصين، على سبيل المثال، بدأت تلتهم موارد في دول أميركا الجنوبية وإفريقيا، دون إطلاق رصاصة واحدة. وهذا النوع من الحرب يفسر لماذا تنخرط الدول القومية في أنشطة استخباراتية اقتصادية، عبر سفاراتها في الخارج. وهذه الحقيقة هي التي وجدها العميل السابق لدى المخابرات الأميركية، إدوارد سنودن، صادمة بشكل حمله على كشفها علناً.

وقد يسبب الكشف عن مثل هذه المعلومات السرية، ضرراً خطيراً للمصالح الوطنية عبر تقويض تنافسية بلد ما. وكون الحرمان الاقتصادي يدخل في حساب الأمن القومي، فهذا موضوع نقاش، ولكن الأمر لا يتعلق بالتصور القائل إن بلداً يتعرض لضربة اقتصادية سيشهد تراجعاً عاماً في الموارد، بما في ذلك تدني مستوى الأمن القومي.

وتُستخدم في نوعي الحروب المعاصرة هذه، الدينية الأيديولوجية والقومية الاقتصادية، وسائل تكتيكية جديدة لم نرها من قبل، ينطوي معظمها على تكنولوجيا جديدة لأغراض الحرب النفسية.

ويستخدم النموذجان وسائل الإعلام الاجتماعي، لنشر المعلومات والدعاية المغرضة، والهجمات الإلكترونية لكسب الدعاية أو لإثارة الخوف العام. ويمكن القول على نحو يحتمل الجدل، إن هناك حالياً ما يكفي من الصراعات على امتداد العالم، من كل من هاتين الفئتين، لتكوين بؤر توتر لحرب عالمية ثالثة بأثر رجعي.

وما تبقى هو ما إذا كانت الحروب الدينية الأيديولوجية «الساخنة»، ستندمج بطريقة أو بأخرى مع حروب الدولة القومية الاقتصادية «الباردة»، في صورة تأخذنا إلى نقطة اللاعودة، وإلى أسوأ نتيجة ممكنة. وقد تؤرخ هذه الصراعات الدينية الأيديولوجية في التاريخ، باعتبارها الشرارات التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الثالثة، بينما كانت جميع القوى العظمى مشتتة.

 

Email